من المهم فى وقت الأزمات، مساعدة الناس على التعامل معها ورفع روحهم المعنويّة، وتبشيرهم بما يساعدهم على تقليل المخاطر والصبر عليها إن هى وقعت، والجائحة التى نمر بها توجب على العلماء توجيه الناس إلى الالتزام بتعليمات الوقاية، والوقوف إلى جانب المصابين ومواساة أهل الراحلين، فالناس فى أمس الحاجة لبعث الأمل وشحذ الهمم للتعامل الأمثل مع الجائحة التى ألمت بهم، والخروج منها ببعض الفوائد حتى من مواطن الخسائر كالموت أو المرض، نعم فإنه يمكن الخروج من الأزمة بكثير من الفوائد، كمراجعة السلوك فى جانب العبادة وفى التعامل مع الناس، وإبراء الذمة والتخلص من العهدة وحقوق الناس ومظالمهم، وترسيخ الإيمان بأن ما قدره الله سيكون، وما علينا إلا الأخذ بالأسباب وعدم التفريط أو التهاون، فمن أصيب من الناس بالمرض فعليه الرضى واعتبار ما أصابه منحة لرفع الدرجات والتخلص من الذنوب، فما من شوكة يشاكها الإنسان إلا كفر الله بها عنه بعض ذنوبه، فمن مات فهو شهيد بإذن الله، فعلى أهله الصبر والاستبشار والتوجه إلى الله بالدعاء ليقبله فى الشهداء، كما يمكن نيل الكثير من الأجر والثواب من مساعدة المصابين بالمرض والوقوف إلى جانبهم، كما تفعل الطواقم الطبية، وللأسف يترك البعض هذا المسلك النافع ويطرح موضوعات لا ثمرة طيبة لها، وربما يكون لها بعض الثمار المرة التى تخلف غصة ليس فى الحلق وإنما فى النفوس، حيث يثير هؤلاء جدلية لا داعى لها وهى الزعم بأن الجائحة التى ألمت بالكون هى عقاب من الله كهذا الذى أصاب قوم ثمود وغيرهم من الأقوام التى عصت الله فعاقبها عقابا جماعيّا، ومع أن قصد هؤلاء رد الناس إلى طاعة الله ليرفع البلاء، فإن مسلكا آخر يحقق هذا الهدف من غير إيلام لنفوس الناس، وهو إخبارهم بأن هذا الابتلاء إنما هو لرفع الدرجات لمن أحسن فى التعامل مع الجائحة فعدل سلوكه مع الله ومع الناس وصبر على هذا الابتلاء، فإن الصابر على هذا البلاء الباذل وسعه فى حماية نفسه وغيره له أجر عظيم عن الله عز وجل، والأجر أعظم لمن أصيب بالمرض فصبر، وأعظم منهما لمن أصيب فمات، حيث يكون شهيدا عند الله بإذنه كما دلت عليه النصوص، وليس كما يدعى البعض أنه مات ميتة سوء، فإن الطاعون أودى بحياة أعلام من صحابة رسول الله من حفظة كتاب الله بشر بعضهم بالجنة كأبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ولا يصح القول بأن هؤلاء ماتوا ميتة سوء، كما أن النصوص الصحيحة التى رواها البخارى وغيره دلت بجلاء على انضمام موتى الأوبئة إلى قوافل الشهداء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ»، ويقول: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»، ولا يقال إن هذا خاص بمن مات بمرض الطاعون، فالطاعون كما ذكر أهل اللغة: كل مرض عام، ولا شك أن كورونا من الأمراض العامة التى أثبت الواقع انتشارها أكثر من غيرها من الجوائح التى ضربت الناس عبر التاريخ، فالطاعون كان يقع فى بعض البلدان دون بعضها، بخلاف هذا الفيروس الذى ندر أن تخلو منه رقعة على الأرض، فيكون داخلا فى النصوص بل هو أولى بحكمها، كما أن النصوص دلت على أن انتشار هذا الوباء وغيره بين المؤمنين ليس عقابا، وإنما هو من الرحمة، حيث يكون مذكرا ومنبها وموقظا لضمائر نامت جراء ضغوط الحياة الماديّة، غافلة عن التفريق بين الحلال والحرام، ومتناسية وقفة الحساب بين يدى الله فى الآخرة، وما يعقبها من دخول الجنة أو النار، فقد روى الإمام البخارى أن عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِىِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِى «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِى بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَهِيدٍ»، فالحديث بيّن بجلاء أن الوباء وإن كان من جنود الله التى يعذب بها العصاة إلا أنه فى حق المؤمنين بالله رحمة، فهو عقاب ورحمة فى آن واحد مع انفكاك الجهة، حيث العقاب للعصاة والرحمة لأهل الإيمان، وليس هذا بمستغرب فإن بسط الرزق منحة من الله وتوسعة على الطائعين، وهو فى الوقت ذاته من الاستدراج للعصاة المذنبين، كما أن هذا الحديث يلاحظ للمتأمل فيه أنه أفاد بشارة للمسلمين، فهو يحتمل إثبات أجر الشهيد لمن صبر على الجوائح وعلم أنها بقدر الله والتزم بما عليه من الأخذ بالحيطة والحذر حتى وإن لم يصب بالمرض أصلا، حيث يلاحظ أنه لم يذكر مرضا ولا موتا، بل قال: «فيمكث فى بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له»، فهذا هو كل ما عليه لينال بفضل الله ما بعده وهو «إلا كان له مثل أجر شهيد»، ويلاحظ أيضا أنه لم يقل «إنه يكون شهيدا» بل أثبت له مثل أجر الشهيد، ونحن فى أدعيتنا نتقرب إلى الله أن يتقبل من مات على فراشه فى الصالحين والشهداء، كما علمنا من شرعنا ولا حرج، بما يعنى أن أجر الشهيد ليس مقصورا على من مات شهيدا فى معركة حق أو فى الحالات التى نصت عليها النصوص فقط، وهو ما يمكن أن يستدل عليه بنص هذا الحديث، وليست الأحاديث الأخرى الواردة فى الأوبئة بمانعة لهذا الفهم، مع ملاحظة أن اجتهاداتنا واختلافنا فى حصول أجر الشهادة للصابرين أو المصابين أو موتى الوباء ليس هو الفاصل فى أمرهم، بل أمرهم إلى الله، من قضى له بأجر شهيد فهو له، ومن لم يقض له به فلن يثبته له ما رددناه فى أحاديثنا واجتهادتنا فى فهم النصوص لإثباته له، ولكن نهج شرعنا يؤيد التوسعة والبشارة، ويمنع تقنيط الناس أو إصابتهم بالإحباط، وأعظم استفادة يستفيدها الناس من الجوائح هو الإقلاع عن المعاصى وتقويم السلوك، وليتذكر من يتعاطعون الكبائر منها حالهم ومصيرهم إن ضربهم المرض أو حتى ماتوا بغيره قبل أن يقلعوا عن الكبائر التى هم فى مسالكها، وليتذكر هؤلاء أن الموت بكورونا وغيرها أقرب إليهم من نيل لذتهم بمعصيتهم، وليتذكروا أيضا أن أبواب التوبة مفتوحة على مصارعها، فمن تاب تاب الله عليه، فبشروا الصابرين على الجائحة بأجر الشهداء إن صبروا عليها حتى وإن لم يصبهم، وبقبول توبة من تاب مخلصا وإن مات قبل أن يفعل حسنة واحدة، وابعثوا روح الأمل فى نفوس البائسين، وبددوا خوفهم ليتحولوا من الخوف المرضى إلى الدافع الإيجابى للجد والعمل، وساعتها سنخرج من الجائحة أفضل بكثير مما دخلناها.
حفظ الله الأوطان، ورفع الجائحة، وشفى المرضى، ورحم من انتقل إلى رحابه، وجعل لنا ولهم مثل أجر الشهيد.