مخطئ وواهم من يتخيل أن دولة قوية وراسخة يمكن لها أن تقام دون أساس متين وقوى، وهو «منظومة عدالة حقيقية ومحترمة»، الجميع يخضع لمظلتها، لا تعرف للاستثناءات طريقا، ولا للجلسات العرفية سبيلا، ولا تعترف مطلقا بقوانين «معلهش».
والعدالة بأشخاصها وأدائهم هى القاطرة التى تجر المجتمع إلى التقدم أو إلى الانهيار، «كما يقول دائما الدكتور محمود كبيش أستاذ القانون الجنائى، وعميد كلية الحقوق السابق»، ولا يمكن أن يحول دون هذا الانهيار أية إنجازات مهما عظمت، وأيضا، دولة القانون ليس معناها إلقاء القبض على المجرمين بعد وقوع الحادث، ومحاسبة الإرهابيين، أو الوقوف أمام استعار الكلاب التى تنهش الأجساد قتلا وسحلا وتعرية، وتهديدا، وترويعا، وإنما دولة القانون معناها محاسبة القيادات الأمنية المقصرة، التى لا تؤدى دورها، وارتضت أن تجلس خلف مكاتبها، لا يحرك لها ساكنا، خاصة التى تم إبلاغها بأن هناك أمورا جللا، وتهديدا بالقتل، ولا تظهر العين الحمرا، وتمنع الجريمة قبل وقوعها.
فى دولة القانون، لا يمكن لمدير أمن المنيا ومعاونيه، ولا المحافظ ومعاونيه، أن يظلوا مستمرين فى مناصبهم يوما واحدا بعد وقوع كارثة تعرية سيدة مسنة من بلطجية وهمج، وإذا كانت الأجهزة الأمنية تحركت الآن وألقت القبض على الجناة، لماذا لم تتحرك وتلقى القبض عليهم على خلفية البلاغ، الذى تقدمت به السيدة المسنة ترجوهم حمايتها من هؤلاء المجرمين؟ ولماذا يستهين الأمن إلى هذه الدرجة بأرواح وأمن وأمان الناس؟
دولة القانون يا سادة، لا يمكن أن تعترف بقوانين الجلسات العرفية «وطبطبة الخواطر ومعلهش حقك عليا»، دولة القانون تعترف فقط بتنفيذ القانون على الوزير قبل الخفير، وعلى الغنى قبل الفقير، ويسهر رجال الأمن على حماية الأرواح والممتلكات، ويتحركون لمنع وقوع الجريمة، وليس بعد وقوعها، وإزهاق الأرواح البريئة.
تقاعس الأمن الجنائى فى الصعيد كارثة، استطاع أن يولد المرارة لدى الشرفاء والمحترمين، وتسريب الشعور والإحساس بالظلم والعجز فى مواجهة البلطجية والمجرمين، وما يستتبع ذلك من اندثار دولة المواطنين الشرفاء، والإبقاء على دولة البلطجية والمجرمين، فهل الدولة تنشد فقط لنصرة دولة البلطجية وكسر أنف دولة الشرفاء المحترمين؟
إذا قرر أى مراقب وطنى محترم ومحب لوطنه، أن يزور أحد أقسام أو مركز شرطة فى محافظات الصعيد على وجه الخصوص، وطالب بالاطلاع على حجم البلاغات، سيصدم بما تتضمنه البلاغات من تهديد بالقتل، إلى اغتصاب الممتلكات، سواء أراضى أو عقارات دون وجه حق، والأمن لا يتحرك، ويلقى بالبلاغات فى الأدراج، أو الدعوة لعقد جلسة عرفية، لا تسمن أو تغنى من جوع، ومن هذه النقطة تحديدا يكمن الخطر الداهم.
الجلسات العرفية رسخت لدولة البلطجية بكل عنفوانها ومخاطرها وظلمها، فلا قوانين ملزمة، ولا عقوبات رادعة، ولا قدرة أمنية على مواجهتها، وأصبح صوت الرصاص المتحدث الرسمى، ولسان حال المجرمين، والخطورة من أن الظاهرة فى تزايد مخيف ومرعب، وأصبح القتل عادة يومية، ومناظر الدماء فى الشوارع وفى الغيطان أمرا عاديا، والدولة المتمثلة فى الأمن الجنائى لا وجود لها، وكأن الصعيد دولة مجاورة غير خاضعة للخريطة الجغرافية المصرية، أو السلطة المركزية.
الأمر خطير، وينذر بكارثة، والأمن يعمل حاليا وفق سياسة القردة الثلاثة «لا أرى شرا.. لا أسمع شرا.. لا أرى شرا»، واترك الجميع الظالم والمظلوم يخلصوا على بعض، ثم بعدها نتحرك لجمع الجثث والأشلاء، ومنح تصاريح الدفن.
ومن جديد، أحذر الجميع، وأشهد الله عليهم، أن القادم فى صعيد مصر هو الأسوأ، وأن تقاعس الأمن الجنائى يمكن تصنيفه تحت شعار «المؤامرة»، لذلك نستصرخ القيادات المعنية أن تسرع وتتحرك لوضع حد للتقاعس الأمنى، وعدم الاعتداد بالجلسات العرفية، وإعلاء شأن القانون، ماذا وإلا الوضع سيكون كارثيا بما تعنيه الكلمة وتحمله من دلالات مأساوية.