يحتفل الناس فى شهر شعبان، بذكرى تحويل قبلة المسلمين فى صلاتهم من المسجد الأقصى بفلسطين إلى الكعبة المشرفة بمكة، وبين العلماء خلاف فى تاريخ وقوع تحويل القبلة، حيث يرى بعضهم أنه كان فى السابع عشر من شهر رجب، ويرى بعضهم أنه كان فى الثامن من المحرم من العام ذاته، بينما يرى بعضهم الآخر أنه كان فى النصف من شعبان، وهذا خلاف لا أثر له، فلا خلاف بين العلماء على حقيقة تحويل القبلة، حيث سجلها كتاب ربنا فى قرآن يتلى كما سجل من قبل رحلتى الإسراء والمعراج، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، شديد التعلق بالبيت الحرام، وحين كان بمكة كان يصلى جهة اليمين من الكعبة متجها إلى الشمال فتكون الكعبة بين يديه وهو يستقبل المسجد الأقصى شمالا حيث كانت القبلة، وحين انتقل إلى المدينة المنورة لم يعد ذلك ممكنا فكان يستقبل المسجد الأقصى، ويحن إلى الكعبة المشرفة ستة عشر شهرا بعد هجرته، حتى حقق ربه أمنية طالما انتظرها، فأُمر بالتحول فى صلاته إلى الكعبة المشرفة، كما ورد فى قوله تعالى: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ»، والجامع بين الإسراء والمعراج وبين تحويل القبلة هو الابتلاء والاختبار لعقيدة المسلمين، فكما كُشف زيف إيمان المنافقين بحدثى الإسراء والمعراج، حيث كذبوا رسول الله لغرابة الحدثين لحدوثهما على خلاف المعهود بحسابات الواقع، مع أن شأن المؤمن هو التسليم والانقياد لما يثبت عن طريق الشرع، وإدراك أن المعجزات لا تجرى على قواعد العلم والمعهود عند الناس، والمؤمن حقا هو من يسارع إلى التصديق، لا سيما إن صدر الفعل أو القول عن نبى مرسل عرف قبل بعثته بالصدق والأمانة، ولذا بادر الصديق فور سماع خبر الإسراء والمعراج الذى يستغربه المنافقون والمشركون قائلا: «إن كان قال فقد صدق»، فكذلك كشف حدث تحويل القبلة فريق المؤمنين وميّزهم عن فريق المنافقين، ففور نزول الوحى على رسولنا وأمره بالتحول إلى القبلة التى يحبها، تحول هو ومن خلفه فى صلاتهم امتثالا لأمر الله، ولم يقتصر التنفيذ الفورى على من كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل من يصله الخبر يسارع بتنفيذه ولو كان فى صلاته، كما حدث مع أهل قباء الذين وصلهم الخبر وهم فى صلاة الفجر، فانتقل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال واستقبلوا جميعا ما كانوا مستدبرين قبل قليل: «فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِى صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ»، وهذا هو شأن المؤمنين حقا بربهم ورسولهم والممتثلين لأحكام شريعتهم، وإن استغربتها عقولهم وهؤلاء من قال عنهم ربنا: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، بينما قال المرجفون ما بالنا نصلى إلى الشام تارة وإلى الكعبة تارة، فهل كانت القبلة الأولى باطلة، وإذا كانت كذلك فما حكم صلاة من مات قبل أن يدرك القبلة الصحيحة؟ فتشككوا فى دينهم وارتدوا عن الإسلام كما فعل من كذبوا نبأ الإسراء والمعراج وهم من قال عنهم كتاب ربنا: «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ».
وهذا الابتلاء والاختبار لعقائد المؤمنين غير مقصور على ما كان فى الإسراء والمعراج وتحويل القبلة، بل هو سنة الله فى خلقه حتى الأنبياء منهم، فقد ابتلى إبراهيم بالأمر بترك أسرته المكونة من زوجته وولده الوحيد الذى أنجبه عن كبر فى صحراء جرداء ليس فيها أدنى مقومات الحياة عند المسجد الحرام، فنجح ولبى من دون تردد، فأصبحت عامرة وهى قبلة المسلمين وبها تتعلق أفئدتهم وتهفوا لزيارتها حجاجا ومعتمرين، وابتلى بأمر ذبحه فسارع لتنفيذ أمر ربه على ما فيه من مشقة بالغة قبل أن يأتى الإنقاذ من السماء: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»، فأصبحت أحدث الابتلاء من شعائر المسلمين، حيث يرمون الجمرات فى حجهم، وينحرون الأضاحى فى عيدهم الأكبر، فى دلالة على تواصل الرسالات، وأن الرسالة المحمديّة جامعة لها فى صورتها الكاملة التى لا تبديل فيها ولا مزيد عليها، وابتلى سيدنا إبراهيم بالصبر على إلقائه فى النار فصبر، وولده إسماعيل ابتلى بالصبر على الذبح فكان موقفه: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، وابتلى سيدنا أيوب بالمرض الشديد فصبر: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، وابتلى سيدنا موسى وعيسى وغيرهما بما نقله لنا كتاب الله، وابتلى سائر الأنبياء بتكذيبهم من أقوامهم: «وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»، فصبروا واستمروا فى إبلاغ ما أرسلهم به ربهم، ونخلص من هذا كله إلى أن الإيمان بالله ورسله لا يكفى فيه الأداء الظاهر بل يجب أن يقترن باعتقاد جازم وتصديق مطلق، حيث يتوافق الامتثال الظاهرى بالاعتقاد الذى وقر فى القلب، فلنرسخ إيماننا الداخلى ليكون امتثالنا الخارجى ترجمة لهذا الإيمان الذى وقر فى القلب، فالإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل، وحيث إننا فى شهر شعبان الذى نستعد فيه لاستقبال شهر الخير والبركة رمضان، فلنوطن أنفسنا على الطاعة ولنكثر من العمل الصالح ومنه الصيام، فعن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِى شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِى شَعْبَانَ»، تقبل الله منا جميعا صالح العمل ويسره لنا، وبلغنا رمضان.