"أنا كده .. حظى كده .. ربنا خلقنى كدة"، بعد 72 عاماً من رحيله؛ لا يزال صوت نجيب الريحانى المشروخ بالتهكم وهو ينطق جملته الشهيرة هذه، يبدو كأنه لا يصافح أحزانه وعذاباته وحده، ولا يحسم معادلة حياته فقط بعبارة ميزته واختصرت كل جروحه الصغيرة والكبيرة، بل يستمر صوته ليعبر عنا بشكل أو بآخر، نستعير جملته فى أحوال كثيرة ونقلد طريقته فى الأداء، فلم تكن هذه الجملة مجرد كلام عابر فى عمل فنى، حفظناه بالتكرار بقدر ما كانت إشارة من إشارات الريحانى، منه تعلمنا كيف نشهر كل أسلحة السخرية كما نشاء وننفض الدخان عن رئتنا، إنها أيضاً الجملة الوجودية التى تتقاطع مع مشوار حياة فنان اشتعل تاريخه وتوهج بحزن لياليه الطويلة.
صوت نجيب الريحانى هو السهل الصعب، ينطق بالوجع؛ لكنه يجتاز بك سرداباً طويلاً من الهموم، فيه هذا الخليط من التعب والأمانى، هذا الكر والفر بين الدموع المخنوقة التى تأبى الظهور وبين الفرح.. سخرية المتناقضات فى صوت يبدو كأنه ورد ينبت على جرح، بينما لملامحه تعبيرها الجذاب، فى إطراقته وانحناءته الصغيرة وآثار التعب وروافد الحزن المرسومة على جبينه، وجهه ذو الطراز القديم نوعاً كبورتريه فى أحد الصالونات العتيقة محملاً بالمتاعب، نصف الابتسامة المواربة هى الشعاع المباشر بينه وبين الآخرين، كما لو أن الشارع يعبس فى وجهه فيبتسم كرسول ويواصل المسير، كأنه يتباهى بجرحه أو كأن ابتسامته تحميه من قهر ما، أما فى عينيه الشاردتين؛ فيمكن أن تبصر الحزن يحترق فى مقدمة فهرس طويل يحتوى كل التناقضات: قيد وحرية.. جرح وأمل.. جفاف ومطر.. عمق وبساطة.. زهور وقنبلة و.. و.. كل شىء ونقيضه يصنع كائناً من لحم ودم وفن يشتهى السعادة كسؤال فلسفى أرق الجميع فلاسفة وعوام.
تذهب أعمال الريحانى عميقاً فى السخرية، وكما تمحو هذا الفارق اللفظى بين الضحك والبكاء، تباغت العقل وتستدعى كل الحواس إلى مساحة مهيأة للعواطف، حيث يطرح الفرح حزناً والحزن فرحاً، إنها تلتزم بالسخرية كفن يمنح القضايا الكبيرة بعدها الإنسانى دون ابتذال أو غلاظة، فتبدو كأنها بيان فنى للمضرجين بجراحهم الاجتماعية مرفوع ضد المرحلة التى ظهرت فيها، المدهش أن البيان الريحانى ظل مرفوعاً فى كل المراحل التى أعقبته لتعلنه أكثر حضوراً وتأثيراً فى أجيال كثيرة استلهمت تجربته واستمدت منها طاقة السخرية اللاذعة.
الريحانى، ضحكة مصر ورسمها البيانى المتأرجح بين صعود وهبوط، وبوصلة الباحثين عن وصايا المحبة والحنين، الضاحك الباكى، الثائر الساخر، فيلسوف الكوميديا.. ألقاب كثيرة تختصر حياة حافلة، ربما كان الحصى كثيراً على درب صعوده، وربما عانى كثيراً، لكنه مر فى أفق الأحلام وحقق ما أراد، يقول عنه رفيق دربه الكاتب والشاعر بديع خيري:" الريحانى لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفاً وفناناً. فناناً أصيلاً عاش لفنه فقط، ولقى الاضطهاد والحرمان وشظف العيش فى سبيل مثله العليا".
لم يكن أحد يتصور أن الطفل الانطوائى فى مدرسة الفرير الابتدائية، الذى ولد فى العام 1891 من أم مصرية وأب عراقي، وعاش فى حارة درويش مصطفى فى حى باب الشعرية، سيكون أيقونة مصر فى الفكاهة والسخرية، لم يسأل أحد عن جنسيته العراقية التى لم يعرفها الكثيرون إلا بعد رحيله بسنوات طويلة، إنه ابن مصر لا مفر.. ابن مصر شكلاً ومضموناً، نهض من قاع هذه البلاد وتعمد بأوجاعها، ورث نصيب ناسها من القهر والسخرية من الأحوال، يعنى كان قادراً مثل المصريين على التغلب على "الغُلب" بالنكتة.
السينما هى النافذة الأوسع لفنه باعترافه هو شخصياً حين أعلن اندهاشه من أنه على قلة أعماله السينمائية لكنها الأبقى والأكثر تأثيرا، قدم نحو عشرة أفلام، منها عرف الجمهور ذلك البائس الفقير قليل الحظ، المشدود بين أصوله الفقيرة وبين حضوره الدرامى فى أوساط الأغنياء، سواء كان سلامة فى "سلامة فى خير" (1937) إخراج نيازى مصطفى، أو جابر فى "سى عمر" (1941) إخراج نيازى مصطفى، أو حسن أبو طبق فى " لعبة الست" (1946) إخراج ولى الدين سامح، أو شحاتة أفندى فى "أبو حلموس" (1947) إخراج إبراهيم حلمي، أو حتى الأستاذ حمام فى "غزل البنات" (1949) إخراج أنور وجدى، آخر أفلامه والأقرب إلى طبيعته الشخصية وواقعه المرير، هذا الرجل المعدوم الذى يأتى من خلف كل السدود الأدمية ليدخل القصر الفخيم ويتعامل مع الخادم بهيبة الباشا، وحين يتقابل مع الباشا يخدعه مظهره البسيط..
الباشا: إنت جاى هنا تعمل إيه؟
الأستاذ حمام: أدرس لبنت السلطان
الباشا: بنت السلطان؟
الأستاذ حمام: بنت الباشا.. بنت الباشا
الباشا: إنت المدرس الجديد
الأستاذ حمام: أيوة أنا المدرس الجديد
الباشا: وشايف تقدر تسد فى الشغلانة دى يعنى إنت ضليع فى قواعد اللغة العربية فى أصول اللغة العربية
الأستاذ حمام: أيوة زى ما إنت ضليع فى قواعد الجرجير وأصول البقدونس والفجل الرومى...
من أشهر مشاهد السينما المصرية، نموذج لحالة سوء التفاهم الناجم عن عدم تصديقه لكل شواهد الانبهار حوله، وهو الطالع من قلب عالم آخر له تصوراته المغايرة، فى هذا الفيلم نتعايش مع هذا النموذج الذى يصنع بذكاء وعفوية أشهر مواقف الكوميديا السوداء، إنه الأستاذ حمام الذى يذهب لشراء السمك فيشترى السمكة الفاسدة، وحين يقوم بدوره كمعلم فى مدرسة للفتيات لم يستطع السيطرة عليهم فيطرد من المدرسة، وعندما يظن أخيراً أن الحظ بدأ يدير وجهه ناحيته حين تصادفه فرصة عمل كمدرس خصوصى لابنة الباشا يلازمه سوء الحظ، ما يجعله فى النهاية يضحى بحبه لابنة الباشا من أجل سعادتها.
لم يمهله القدر ليشاهد "أستاذ حمام" المحب التعس وكيف كان يحبس دموعه مع لحن محمد عبد الوهاب وكلمات حسين السيد: "وأبيع روحى فدى روحى... وأنا راضى بحرمانى.. وعشق الروح مالوش آخر لكن عشق الجسد فاني.."، مات الريحانى بعد أن صنع مفارقته الخاصة، حيث كتب رثاء لنفسه بخط يده قبل خمسة عشر يوماً من رحيله، قال فيه: "مات نجيب مات الرجل الذى اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء.. إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذى لا يعرف إلا الصراحة فى زمن النفاق ولم يعرف إلا البحبوحة فى زمن البخل والشح.. مات الريحانى فى 60 ألف سلامة".