كان جمال عبدالناصر محظوظا بالصحافة وعبدالحليم حافظ، وأنا من الجيل الذى تربى على أغانى حليم، زعيم ثورة المشاعر الوطنية، الذى رفع صوت ثورة 23 يوليو فى السماء، وحفظنا أغانيه عن ظهر قلب، لعبدالناصر، وفلسطين، والسد العالى، وصورة، ويا أهلا بالمعارك، وابنك يقولك يا بطل، ولم يكن مطربا عاديا، بل ثائرا تطلق حنجرته ألحانا أقوى من الهدير، وكان مؤمنا بالثورة وعابدا فى محرابها، ومعبرا عنها بروحه ودمه وأعصابه، ومعه صلاح جاهين الفارس الذى سخر أروع الأشعار الوطنية.
راح زمن حليم وأيامه الحلوة وصوته الجميل، وأصابتنى صدمة النفور من مطربى 25 يناير، وأسوأ ما فيهم هو ديل الحصان المربوط بأستيك، ويتدلى على ظهورهم، ولحاهم الكثيفة وملابسهم الرثة، أما عن أغانيهم فحدث ولا حرج، أحدهم يجلس على صخرة فى بحر، ولا تعلم إذا كان يغنى أم «يعدد» أم يوشك على الغرق، لا يعنى شعرا بل يرتجل سخفا، والموسيقى فى ناحية وصوته فى ناحية، ومطرب آخر مثله تماما يهرول فى الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير، وخلفه شباب يهرولون، ولا تعلم هل يغنون وراءه أم يطاردوه، وأى كلام ييجى على بالهم بيغنوه.
استبشرت خيرا فى 30 يونيو بالأغنية التى رقصت عليها القلوب «تسلم الأيادى»، ثم «بشرة خير» وبعدها صمتت الألحان الجميلة، ولم نسمع شيئا يعلق بالذهن وتردده الألسنة، وظهر مطربون بدرجة موظف درجة سابعة، لا يغنون باستمتاع بل يلفظون الكلمات من أفواههم كأنها بقايا طعام، ولا تذاع أغانيهم إلا فيما قبل المناسبات الرسمية فى القناة الأولى، والحمد لله على ذلك.
بالطبع ليس مقصودا بالأغانى الوطنية التطبيل ولا التهليل، ولكن صناعة الأمل وإسعاد الناس ورفع روحهم المعنوية، وإيقاظ الحماس وحب الوطن وروح الانتماء، وتجسيد صورة حقيقية لما يحدث على أرض الواقع، فمصر بالفعل فيها الآن ألف مشروع فى حجم السد العالى ولا يغنى لها أحد، ولا يتصدر المشهد إلا السلبيات والصور الكئيبة، التى تتسابق الفضائيات فى ترويجها، وكأن مصر ليس فيها إلا عشوائيات وخرابات ومرضى وفقراء وجوعى وعجائز ومكسحين وشحاتين، بينما البلد فيها الكثير والكثير من الصور المشرقة التى تستحق تسليط الأضواء عليها.
وكان عبدالناصر أيضا محظوظا بالصحافة، رغم قسوته البالغة فى التعامل معها، ولم يسمح بالاختلاف أو النقد إلا فى الحدود التى يرضى عنها، وعندما كتب إحسان عبدالقدوس مقالا بعنوان «الجمعية السرية التى تحكم مصر»، منتقدا أعضاء مجلس قيادة الثورة، رماه فى السجن الحربى، وكان قبل ذلك صديقا له ويزوره فى مكتبه، ثم أفرج عنه ودعاه للإفطار، وقال لى: «دى قرصة ودن يا إحسان» فرد إحسان: «كنت صديقى وأناديك بـ جيمى، والآن لن أقول لك إلا سيادة الرئيس»، وانتهت الصداقة بين الاثنين.
حرية الصحافة فى عهد عبدالناصر كانت محفوفة بالمخاطر، وتخضع لسطوة الرقيب الذى يراجع الموضوعات قبل نشرها، ولو عاد بنا الزمن إلى الوراء، فسوف يواجه نصف الصحفيين والإعلاميين على الأقل ما حدث لإحسان عبدالقدوس، وأصبحوا زبائن دائمين فى السجن الحربى، يُحبسون بالتليفون ويُفرج عنهم بالتليفون، أو يلقون مصير فكرى أباظة الذى فصله جمال عبدالناصر، لأنه كتب سطورا لم تعجبه عن الحرية والديمقراطية، فى ركنه الهزلى «الجاسوسة الحسناء»، وكان أباظة قد اعتاد على مدى أربعين عاما الذهاب إلى مكتبه بمجلة «المصور» بدار الهلال، فمُنع وفُصل وعانى مجموعة من الأمراض، ولم يكن يملك سوى مرتبه، وباع كل ما يملك حتى جاع، واضطر أن يعتذر بصورة مهينة تأسى لها الصحفيون، وكتب اعتذارا إلى عبدالناصر فى الصفحة الأولى من جريدة «الأهرام».