لا يوجد أفضل من اللجوء للسينما والاحتماء بالأفلام القديمة، هروبًا من وطأة الواقع وقسوته. إن هذا اللجوء نوع من تحصين الروح وصونها، وتطبيقًا لهذه الحيلة الوقائية شاهدت فيلمًا هو في رأيي متعدد النوع، موسيقي، مأخوذ عن رواية أدبية، طموح في تقديمه للممثلين، وفوق كل ذلك هو لمخرج دائماً مثير للجدل.. إنه فيلم "إضراب الشحاتين"، أنتجته المؤسسة المصرية العامة للسينما في العام 1967، عن قصة إحسان عبد القدوس، سيناريو وحوار محمد مصطفى سامي، بطولة لبنى عبد العزيز وكرم مطاوع وتحية كاريوكا ومحمود المليجي ومحمد رضا وسمير صبري وسهير الباروني وثلاثي أضواء المسرح وغيرهم، والمخرج بالطبع هو حسن الإمام المتوغل في تأثيرات المحيط الاجتماعي على مصائر البشر، الصانع لميلودراما الحكايات الصغيرة وتحولها إلى فواجع مفتوحة على حالات وخلفيات وتفاصيل إنسانية كبيرة، وإن لم تُرض أفلامه كلها النقاد، لكنه ظل مخرجاً يتقن صناعة الأفلام، كما يجيد فـن صناعـة الجمهـور ويفهم مزاجية هذا الجمهور، أو بالأحرى يلتقطها بسهولة ويقدم له أفلاماً يستسيغها ويجعلها مادة للتسلية والنقاش الحيوي، في رأيي إنها أيضاً مادة صالحة لقراءات مختلفة.
المخرج الذي وُلد في العام 1919، ارتبط اسمه ومنجزه السينمائي بثورة 1919، حتى أن فيلمه "بين القصرين" (1964)، سيناريو يوسف جوهر المأخوذ عن ثلاثية نجيب محفوظ، هو الأكثر إلتصاقاً بهذه الثورة وإمتثالاً لإيقاعها، بمشاهده المتخيلة عن الثورة والتي تحولت إلى وثيقة متداولة: الشيوخ والقساوسة، الهلال والصليب، خروج التلاميذ والنساء، الزحف الشعبي عموماً في مواجهة رصاص الانجليز، سقوط الترامواي، شعارات "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، "يحيا الهلال مع الصليب"،"سعد سعد يحيا سعد"، يلفها لحن سيد درويش "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي"، كل هذا تستعين به الأفلام الوثائقية حتى زال تقريباً الخط الفاصل بين التخيلي والواقعي، إنها مسألة مثيرة للعجب والتساؤل: كيف يأخذ التوثيقي من الروائي، المتخيل؟..
لكن السؤال لا يمنع أن ما صنعه الإمام الذي وُلد في عام الثورة دون أن يعش تفاصيلها، هو ما تستدعيه الذاكرة الشعبية والفضول تجاه ما حدث في هذه اللحظة الحاسمة، بل أنه جعل من مولود الثورة مؤرخها السينمائي وصاحب صورتها المرئية؛ في هذا ما يؤكد تأثيرات 1919 الممتدة والتي شملت أجيالاً كاملة وأججت خيالهم في الفن والتمرد، كما فجرت طاقات إبداعية في مجالات فنية مختلفة.
لعل "إضراب الشحاتين" مثال بارز على ذلك، إنه لا يقدم أجواء الثورة بشكل مباشر، لكنها حاضرة من خلال الحكاية والشخصيات والجدران، سياق درامي كل شيء فيه متعلق بإحساس خاص إزاء العالم، لمخرج يقرأ جيداً ويفتش في ما بين السطور ويتصور النص بصرياً، ثم يعرف تأثيراته على المستويين النفسي والانفعالي قبل أن يشرع فيه، هذا ما فعله هنا مع قصة إحسان عبد القدوس "إضراب الشحاتين من أجل الوحدة والتضامن"، المنشورة في روزاليوسف عام 1957، وللمصادفة فإن إحسان عبد القدوس هو كذلك من مواليد العام 1919.
يحكي إحسان عن تاجر كبير يقيم وليمة إفطار في الليلة العاشرة من كل رمضان، يدعو إليها كل الشحاذين الذين يجتمعون حول ضريح السيدة زينب، لكن لم يأت أحد من الشحاذين، فأرسل خادمه يطلبهم، رفضوا الدعوة، فغضب، وحتى لا يفقد هيبته أمام الناس، أرسل ابنه مع الخادم ليخبرهم أنه سيعطى كل واحد منهم خمسة قروش بخلاف الطعام، فوجدهم مجتمعين حول "نكلة" المتسول، الكسيح الذي تحدث باسم الجميع رافضاً العرض إلا إذا أجيبت مطالبهم وهي حقوقهم في مال الأغنياء، بمنطق أن الكرماء محتاجون للشحاذين ولولاهم ما كان هناك كرماء، فيضطر التاجر للاستجابة ويعطي عشرة قروش لكل واحد.
إنه المنطق الذي اعتمد عليه الفيلم، حين قالت المتسولة "شَكَلْ" (لبنى عبد العزيز):" نشحتوا من ربنا ونوزعوا على الناس"، مبررة أن الشحاذة مهنتها التي تتيح لها دخلاً مادياً يساوي دعواتها للذين يحسنون إليها، دائرة كل أطرافها موصولة ببعضها، إلا أن "الإمام" يوسع الدائرة من عالم الشحاذين الذي يعاني أيضاً من افتقاد العدالة الاجتماعية، فتنادي "شكل" المتسولة، المتمردة، بضرورة إعادة تشكيل الخريطة وتوزيع المتسولين، تدعو إلى الانفتاح على المواجهة الأكبر مع الاحتلال الانجليزي وأعوانه في أعقاب ثورة 1919، التاجر في قصة إحسان نراه هنا رجل أعمال ووزير متعاون مع المستعمر، في تطور درامي مغلف بدراما الحب والثورة، من خلال متابعة "شكل" التى تقع في غرام حسنين (كرم مطاوع) الوطني الثائر، وتساعده في كفاحه ضد الانجليز ثم في تصاعد درامي، إنساني يتميز به حسن الإمام، يُسجن حسنين وحين يخرج، يطلب من "شكل" الزواج، يتزوج العامل، المناضل من العفريتة، العصية في العام 1923، ذلك العام الذي بدأ به الفيلم وشهد صدور دستور 1923، واحد من أبرز نتائج ثورة 1919.
في عام 1923 أيضاً، رحل سيد درويش الذي استعان هذا الفيلم بألحانه وألحان أحمد صدقي التي وزعها علي إسماعيل، بخلاف تأليفه الموسيقى التصويرية للفيلم الذي كاد ينطبق عليه الفيلم الغنائي بشكله العلمي الدقيق، فالجميع يغنون، الحوار غنائي، الموسيقى والغناء من مستلزمات العمل السينمائى لدى حسن الإمام عموماً، الأغنية والاستعراض من هواجسه التي تطل من فيلم لآخر، وعلى هذا الأساس اتخذ الفيلم حتى منتصفه تقريباً شكله الغنائي متتبعاً الخط الدرامي باسكتشات غنائية كتبها حسيب غباشي وعبدالفتاح مصطفى، قام بأداءها سناء الباروني، ثريا حلمي، سيد الملاح، ثلاثي أضواء المسرح، وشارك فيها فريق الممثلين، فكانت: "إلهي ما يجوعلك كبد"،"شكَل شكَل شكَل"، "اقرأ يا شيخ فقاعة"، "يا وعدي"، وغيرها من أغنيات هي عنصر أساسي في حبكة الفيلم لا تنفصل عن موضوعه أو أحداثه، هي جزء من شكله التعبيري الذي خرج من رحم مدرسة بديعة مصابني وصالتها العريقة، وكما أرساه تلاميذها من نجوم الموسيقى والغناء والرقص والتمثيل، كان حسن الإمام نفسه من روادها، وربما يفسر هذا حضور شارع عماد الدين في الفيلم، وظهور صالاته المسرحية:"منيرة المهدية، كشكش بك، علي الكسار"، بل تجسيد منيرة المهدية وإطلالتها أكثر من مرة في الفيلم، عطوفة، حنونة، كريمة.
أراد "الإمام" أن تنسلّ صور فيلمه كالموسيقى، استمد منها التأثير البصري وإحساس الانسجام، صنع "ميزانسين" وحركة في المكان، فالشخصيات لا تقفز أو تغني في الفراغ أو بدون ضرورة، وإنما أصبح للكادر أبعاده وعمقه، وللصورة مساحتها المتعددة، كما أظهرتها كاميرا مدير التصوير "علي حسن"، تكبر أو تصغر هذه المساحة؛ لكنها تتوزع بألوان باردة تميل إلى العتمة؛ معبرة عن حالة الفقر التي تنسحب على الشحاذين وملابسهم الرثة، حتى تكاد روائحهم تطلع منها، حالة كشفت براعة في أداء الممثلين ومزجهم بين التمثيل والإيقاع الموسيقي، لبنى عبد العزيز من أدوار الفتاة الرومانسية ابنة الأغنياء أو الطبقة المتوسطة إلى شحاذة بملابس ممزقة ووجه ملوث بالتراب والطين، دور حاولت به إثبات إمكانياتها التمثيلية، خصوصاً بعد إنفصالها عن رمسيس نجيب زوجها ومنتج أفلامها، تحية كاريوكا في دور شيخة الشحاذين في الحسين، محمود المليجي في دور الأشرم شيخ شحاذي السيدة، الجميع يذوب في الحالة، حتى كرم مطاوع بأدائه الذي يعتمد على نسق واحد، يخصه ويميزه ولا ينتقص من قدره كممثل واعِ بدوره، لتؤكد النتيجة الإجمالية على الإيقاع الموسيقي وإن لم يكتمل حتى النهاية، ليحقق فيلماً غنائياً كاملاً؛ حيث إنشد حسن الإمام إلى مسار آخر؛ منهجه الذي يحبه، فكان أكثر إسهاباً في الخطابة السياسية المباشرة، وتوغلاً في دروب الثورة ومشاهدها، مع ذلك تُحسب له جرأته في اقتحام مساحة مهمة أعاد فيها تشكيل العمل السينمائي، وابتكار الجديد الذي يجذب الجمهور لمشاهدة نتاج سينمائي مغاير، لا يقف عند حدود اللون الواحد.