هل يكرر التاريخ نفسه؟ سؤال شغل العديد من الكتاب والفلاسفة ولم يتفقوا فيه على قول فصل به وانقسموا فى الإجابة إلى فريقين متعارضين فذهب فريق إلى أن التاريخ لا يتكرر أو يعيد نفسه، ولكن قد تتشابه بعض الأحداث التاريخية ومنهم الكاتب الأمريكى الشهير"مارك توين".. ويدللون على صدق مذهبهم بأن الأحداث التاريخية تحدث مرة واحدة فالماضى غير قابل للتكرار لاختلاف الأشخاص والأحداث والظرف المكانى والاجتماعى فالعالم متغير متحول، فالحضارات الإنسانية المختلفة والإمبراطوريات نفسها تتبدل وتتغير أحوالها عبر مراحل متعددة ما بين نشأة، وتقدم وازدهار، إلى تدهور واختفاء.
فى حين يرى جانب آخر أن التاريخ ليس سجلا تدون فيه الأرقام والأحداث ويبقى كما هو كنسخة وحيدة غير قابلة للنسخ والإعادة، ويؤكدون على إمكانية تكرار التاريخ ومنهم الفيلسوف الألمانى هيجل الذى يؤكد قابلية الأحداث والأشخاص التاريخية للتكرار فى حياة الأمم والشعوب.
ولكن ما علاقة هذه الإشكالية الفلسفية مع الحالة المصرية ؟
فى الواقع أن الحالة المصرية تنحاز وأكبر برهان ودليل على ترجيح وجهة النظر الثانية للفيلسوف الألمانى "هيجل" التى ترى بإمكانية تكرار التاريخ خاصة فيما يتعلق بصناعة القوة الناعمة فكل ما يحدث على الأرض المصرية أشبه بمعجزة حقيقية لم تقتصر على مجال واحد بل امتدت لتشمل نهضة شاملة من خلال مشروعات عملاقة يتم تنفيذها من خلال مبادرات وخطط تنموية لم تقتصر على مجال واحد بل تتعدد إلى مجالات متعددة والعجيب أنها تنفذ على قدم وساق وفى وقت واحد من خلال تنفيذ مشروعات عملاقة وتطوير بالتزامن مع تحديث قواتها المسلحة وتنوع مصادر السلاح وتنفيذ خطط طموحة تهدف إلى رقى الإنسان وتوفير بيئة صالحة له بعيدا عن العشوائيات ومحاربة الأمية والفقر وإنشاء بيئة خلاقة مبدعة تحت شعار يتم العمل عليه جامع لكل هذه المعانى باسم "حياة كريمة" تليق بالمصريين.
والحقيقة أن المشروعات والخطط التنموية التى يتم تنفيذها فى كامل ربوع الدولة الدولة المصرية لا يمكن توصيفها تحت مسمى واحد أو حصرها فى نطاق ضيق فلا يمكن القول بأنها نهضة صناعية أو اقتصادية لأن هناك مشروعات تنفصل عن النشاط الصناعى والتجارى وتنتمى إلى صناعة الذوق وتربية الحس الفنى والجمالى ومنها مشروعات الحفاظ على التاريخ والحضارة المصرية ممثلة فى إنشاء المتاحف أو تطوير ما هو قائم بالفعل والاهتمام بالثقافة والعروض الثقافية وإنشاء الابراء الجديدة وغيرها من المشروعات الأخرى، لذلك قد يمكن القول أن تلك المشروعات يمكنه وضعها تحت العنوان الكبير "وهى إعادة صناعة أو استعادة القوة الناعمة المصرية" والتأثير القوى فى محيطها الإقليمى والدولى من خلال الحضور القوى فى كافة المحافل الدولية وإدارة ملفات تؤكد على التواجد المصرى وثقل مكانتها.
لكن لماذا يتم استخدام لفظ "إعادة" لأنه وبتجرد تام أن صناعة القوة الناعمة أمر ليس بجديد على الدولة المصرية فبعيدا عن المقومات والإرث الحضارى وامتلاكها لحضارة أبهرت ومازالت تدهش العالم أجمع رغم عدم البوح بكامل أٍسرارها ولكن فى هذه الحالة نتكلم عن صناعة حقيقية بدأت منذ القرن التاسع عشر وتحديدا منذ تولى محمد على الحكم والذى استطاع الانتقال بالدولة المصرية إلى النهضة الحقيقية والتنوير من خلال ركائز محددة بدأت أولا من خلال استراتيجية كبرى وهى بناء جيش قوى عصرى وتوفير أحدث المعدات والأسلحة له، كما عنى محمد على بالتعليم وتحديثه فأدخل عليه العلوم الاجتماعية والتطبيقية، حيث كان يقتصر قبله على التعليم الشرعى فقط فضلا عن التوسع الكبير فى إنشاء المدارس بطول البلاد وعرضها فلم تقتصر على القاهرة فقط بل امتدت للأقاليم المختلفة، بجانب افتتاح عدد من المدارس العليا لدراسة عددا من التخصصات لأول مرة ومنها مدرسة قصر العينى، ومدرسة اللغات، ومدرسة لصناعة المعادن، ومدرسة للطب كما أبدى اهتمام لدراسة الفنون والموسيقى والموسيقى والفنون، والمدارس الفنية وتشمل على المدرسة الهندسية، والزراعية.
كما عنى محمد على بإرسال البعثات للخارج إلى دول مختلفة ومنها إيطاليا وفرنسا وإنجلترا من الطلبة المصريين للتعرف على آخر ما انتهت إليه العلوم الحديثة ونقله إلى الدولة المصرية فكانت بداية البعثات إلى إيطاليا لدراسة العلوم الهندسية والعسكرية وطرق بناء السفن والطباعة ثم أتبعها ببعثات أخرى إلى كل من فرنسا وإنجلترا كما تم إرسال بعثة أخرى عام 1826 لدراسة صناعة الأسلحة والطب، والزراعة، والتاريخ الطبيعى، والكيمياء، وهندسة المعادن والرى والهيدروليكا، والطباعة، والترجمة، وشهد عام 1844م أكبر تلك البعثات وتوجهت إلى فرنسا وضمت 83 طالبا وسميت ببعثة الأنجال لأنها ضمت عددا من أسرة محمد على .
هذه البعثات عادت على مصر بالخير الوفير حيث شهدت مصر نهضة صناعية وثقافية كبرى بسبب الأخذ بالعلم وأسبابه وكانت لها قوة تأثير كبرى ودور ريادى كبير لتأثيرها الثقافى والحضارى كثمرة حقيقية لذلك المجهود المضنى وهو ما اصطلح على تنفيذه فيما بعد "القوة الناعمة" وبالمقاربة بين ما تم صنعه وتنفيذه خلال تلك الحقبة وبين ما بحدث الأن على الأرض المصرية نجد أن هناك تشابه واضح وحقيقى فى التصميم على صناعة نهضة حقيقية واستعادة القوة الناعمة المصرية من خلال منهج علمى مدروس وخطط قابلة للتنفيذ وأسس واضحة تقوم على محاور العلم والاقتصاد والثقافة والتنوير ، وجيش قوى رشيد لذلك فإن هذه المشروعات لا جيب النظر كعوائد اقتصادية فقط بل يجب أن تكون هناك نظرة أوسع وأشمل من ذلك تكشف عن نية الدولة فى استعادة الدور الريادى لمصر والثقل الحضارى والثقافى لها لها فيما يعرف بـ"القوة الناعمة".