إذا كانت حرب أكتوبر المجيدة في مجملها، هي معجزة عسكرية بكل المقاييس، كما وصفتها المؤسسات البحثية المتخصصة عالمياً، فإن "حرب المعلومات" التي قادتها وأدارتها مصر بكل اقتدار، قد ساهمت في صناعة "الخديعة" التي جعلت إسرائيل على يقين من أن مصر لن تحارب ولو بعد مائة عام.
على مدى سنواتطويلة، تشرفت بالعمل محرراً عسكرياً، وثقت خلالها لعدد كبير من شهادات القادة والجنود والمعاصرين للفترة بين حربي الاستنزاف وأكتوبر المجيدتين.
من بين هذه الشهادات التاريخية، شهادة المرحوم اللواء أ.ح فؤاد نصار مدير إدارة المخابرات الحربية أثناء الحرب، والذي كان مسئولاً عن إدارة الجزء الأكبر من خطة الخداع بحكم منصبه.
هذا القائد العظيم، كانت له بصمة كبرى، على إدارة المخابرات الحربية، خاصة في تحديث الفكر والأسلوب. تحدثت معه طويلاً بشأنها، فقال لي: بصمتي الحقيقية كانت في البحث والدرس.. وتتلخص ببساطة في أنني نظرت إلى نقاط القوة الخاصة بالعدو وكيف يمكن تلافيها؟ ونقاط الضعف وكيفية استغلالها.. وكذلك عناصر القوة والضعف عندنا.
ويضيف: كمثال لم أجد عندنا من الإمكانات الفنية والتكنولوجية ما أستطيع الاعتماد عليها للحصول على المعلومات إلا العنصر البشري.. وفعلاً بدأت أعتمد اعتمادا كلياً على الفرد. وكانت هناك مجموعة قتالية تحمل اسم "39 قتال" يقودها الشهيد المقاتل إبراهيم الرفاعي ومعه مجموعة من الضباط لديهم إيمان كامل بأداء المهمة أو الشهادة.. هؤلاء عبروا قناة السويس وخط بارليف وأحضروا معدات من هناك وجلبوا لنا معلومات عنه وقاموا بأكثر من 39 عملية قتال وسميت بعدها المجموعة بهذا الاسم.. وهناك مجموعة ثانية كان اسمها «منظمة سيناء» هذه المنظمة عبارة عن مجموعة من أبناء سيناء لأن هؤلاء يعرفون سيناء بالشبر. وعملت معنا مجموعة أخرى من المتطوعين من المدنيين والعسكريين، وأقمت بيوتًا للمتطوعين يتعلمون فيها الشفرة وقراءة الخرائط والمعلومات التي نريدها والرموز الموجودة.. كل هذا لمدة شهرين حتى يتعلم الفرد كل شيء ويأخذ جهازا لاسلكيًّا يبلغنا من خلاله بكل المعلومات مهما كانت صغيرة. وبهذا غطينا سيناء كلها.
وبعد الحرب – والكلام لازال للواء فؤاد نصار- سألوا ديان: كيف استطاعت مصر الحصول على كل هذه المعلومات بهذا التفصيل والدقة علمًا بأنه ليس لديها أجهزة متطورة أو معدات فنية تستطيع بها الحصول على هذه المعلومات وليست هناك دولة تساعدها بأقمارها الصناعية.. فأجاب لقد غطت مصر سيناء برادارات بشرية ذات عقول ترى وتستنتج وترسل أفضل مائة مرة من الرادارات الصماء، وبذلك استطاعت مصر أن تحصل على كل المعلومات داخل سيناء.
خلال هذه الفترة، كان نصار حكم وظيفته على اتصال مباشر بالرئيس أنور السادات، لعرض الموقف أولاً بأول وبدقة متناهية.. وكلما توافرت معلومات ذات قيمة، فحرب أكتوبر، كانت "حرب معلومات" بالدرجة الأولى.
يقول " نصار": كان هناك عاملان أساسيان المعلومات والمفاجأة. وقد تعلمت درسًا، وأخبرت به السادات وهو أن روسيا عندما أرادت أن تهاجم تشيكوسلوفاكيا أجرت مناورة على الحدود ودخلت عن طريق هذه المناورة.. ولذلك بدأنا في إجراء مناورة كل سنة وقلنا يجب أن نستغل هذه المناورة لشن حرب من خلالها.. أما التخطيط وموعد الحرب فهذا ما كنا نحافظ عليه جدًّا لدرجة أن أحدًا لا يعرف إلا المطلوب منه فقط.. وفي أضيق الحدود .
بعد قرابة النصف قرن، لازالت مصر تخوض نفس "حرب المعلومات".. رغم التقدم المذهل في وسائلها، إلا أن الرهان الحقيقي على "رجال الظل" الأوفياء.. الذين لديهم الكثير والكثير ..