ليس دائمًا يصح المثل الشعبى "الجواب بيبان من عنوانه"، في ظني هذا ما حدث مع فيلم "غُدوة" للتونسي ظافر عابدين، الفائز بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) في الدورة 43 لمهرجان القاهرة السينمائي، فـ "غُدوة" بما يعنيه العنوان ويبشر به أنه الغد الذي يحمل التفاؤل بالتغيير إلى الأفضل، ظل مجرد عنوان لفيلم مرتبك على مستوى الشكل والموضوع، على الرغم من أن الفيلم إجمالًا بدا مغريًا من جوانب عدة، أبرزها أنه نقلة نوعية لظافر العابدين، تحوله إلى صانع فيلم؛ إضافة لحضوره كممثل له نجومية طاغية.
صحيح أن الانطباع الأول مخادع، أحيانًا، لكن لا يمكن تجاهله، وبالنسبة لي فإن انطباعي الأول، المتأتي من المشاهدة الأولى، يعكس سؤالًا مرتبطًا بحالة الفيلم الفنية وحالتي أنا التأملية، يعكس عدم قدرة على التواصل مع البناء السينمائي، في سيناريو كتبه أحمد عامر عن قصة ظافر العابدين، بطل الفيلم ومخرجه، البناء المرتكز على تشريح نفسي لرجل يعاني من حدث جلل في حياته، وتتماهى حالته مع الوضع العام في بلاده، يُضعفه هذا الالتباس بين الفكرة وبين الصورة التي ظهرت عليه، بين الرغبة في صناعة فيلم يُكرس لنجومية الممثل وبين طغيان هذه النجومية ذاتها، وهذا الارتباك لم يحدث فجأة، بل نتيجة تراكم مجموعة من العوامل تدخل في صميم أصول اللعبة السينمائية، وتشير إلى أن الانطباع الأول هو ركن أساسي في التواصل مع الشاشة، ونعم هو غالبًا يدوم.
"غُدوة" الفيلم الأول للمخرج ظافر العابدين، بدا مغايرًا بوضوح لمساره كممثل ونجم له جماهيرية كبيرة، بدا أنه ينطلق من حالة تأمل سينمائي عميق، لكن هناك ما يشي بتفكك درامي حال دون هذا التوغل التأملي في السينما أو الذات كما توقعنا، أو على الأقل كما توقعت أنا، المعالجة عادية من ناحية، وظافر عابدين ظهر كممثل يؤدي دوره عند هذا الحد الضعيف، الباهت بين ولع بتقديم شيء مختلف وعجز في الشخصية المرسومة، الأداء حتى وإن اختلف عن الصورة المعتادة للممثل ظافر عابدين، ظل على مسافة بعيدة من المأمول، التداخل بين المأمول والمرجو والمرتقب وبين المتاح يصنع نوع من التشوش، الرموز التأملية النابعة من داخل النفس البشرية، لم تترجم بصريًا بالطريقة المناسبة، يعني لم تتحول إلى المفردات السينمائية كما ينبغي، وعلى إثره كانت النتيجة شاحبة وخافتة، وغير قادرة على إثارة شغف المتابعة.
الكلام قاس؟ ربما. لأن انتظار فيلم المفروض أنه يحقق رغبة في رؤية الجديد، المترجم لأحاسيس إنسانية وأحلام وهواجس ناس يعيشون في مجتمع قاسي وخانق، لكن هذا الانتظار كان دون جدوى، لم يقدم الفيلم ما يشفي غليل القلب والعقل ولا ما يشبع العين، مجرد فيلم عادي لا يساوي الضجة التي أثيرت حوله.
الفيلم الذي أهداه ظافر العابدين إلى والديه الراحلين: “إهداء لذكرى أمي وأبي، عزيزة وأحمد”، في تجربته الأولى للإخراج السينمائي، مع طاقم التمثيل الذي يتقدمه كممثل: بحري الرحالي، غانم الزرلي، رباب السرايري نجلاء بن عبدالله، والصبي أحمد بن رحومة، يقدم لنا شخصًا رئيسيًا هو محور الأحداث، بطل لديه أزمة غير واضحة، فمن زاوية يبدو حبيب وهو اسم الشخصية، مختلًا، مصابًا بمرض نفسي نتلمسه فيما يراه ويعيشه من الهلاوس والضلالات، والارتياب الذي أصبح نمط تفكيره، وأسلوبه واعتقاده بوجود تهديد ما، والإحساس بأن هناك أشخاص يراقبونه، أو يحاولون إلحاق الأذى به.
ومن زاوية أخرى نعرفه محاميًا، يدافع عن حقوق الإنسان، منفصلًا عن زوجته وأم ابنه الوحيد أحمد؛ يعيش في شقة فقيرة المظهر، يغلق بابها بحاجز حديدي، هلعًا من خطر مجهول مع أحمد، يروي الزرع في شرفته أو على سطح منزله، يرص الكتب في مكتبته بطريقة هيسترية ويردد مراراً وتكرارًا: "الحقيقة العدالة ثم المصالحة"، لا يكف عن قراءة رواية "المحاكمة/ The Trial" للكاتب التشيكي المعروف فرانز كافكا.
وفي الحالتين ثمة حيرة حول ما نراه عن هذا الرجل، فالبطل هنا ليس هو "جوزيف ك" بطل رواية كافكا، الذي يستيقظ ذات صباح ليتم اعتقاله بشكل مفاجيء ومقاضاته على جريمة لم تحددها الرواية، وإنما هو حبيب الغارق في ظنونه وأوهامه مع ابنه المراهق أحمد، الذي يراعي والده ويتخوف من تدهور حالته الصحية، فنحن لا ندرك ولا نتبين أبعاد الحالة التي أوصلته لهذه المرحلة المرضية، هل كان مريضًا عقليًا؟ هل عانى من قمع وتعذيب فكانت هذه هي النتيجة؟
لا يوجد ما يُعمق هذه الحالة، لا يوجد غير بعض من الرطانة السياسية السطحية، ليست هناك أية إشارة لصورته في السابق الذي أدى إلى هيئته هذه في الحاضر، باستثناء أصوات داخلية؛ لا تعبر عن شيء سوى هلاوسه، إنه مجرد رجل يعيش مونولوجًا كأنه بمفرده على خشبة المسرح، بصرف النظر عن وجود شخصيات أخرى تحيطه، أو الأماكن التي يتواجد فيها، سواء كان بيته؛ لازال يردد: "الحقيقة العدالة ثم المصالحة"، أو في المترو:" اش تمشي تونس لما يكرهونا في بعضنا"، أو في المحكمة يعيد كلمات أبو القاسم الشابي:"إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر" أو أمام بيت وكيل الجمهورية الذي يحاول الوصول إليه ليقدم بلاغًا عن تعذيب الثوار، لكنه يتلقى ضربًا موسعًا من حراسته.
ما نتابعه يدور حول شخصية مهووسة بشيء مجهول، حدث في الماضي وجعلها تتوقف عند نقطة ثابتة، كأنه لم يحدث تغيرًا في الزمان أو المكان، تعطلت عند زمن النظام التونسي السابق "زين العابدين بن علي" والدعوة للثورة عليه، إنه لا يستطيع التواصل مع الآني ويرفض الاعتراف بمرضه أو أنه يمر بخلل ما، وبالتالي يتحايل حتى لا يتناول دوائه، وتكيء على معتقداته في الإصلاح السياسي، بمباشرة صريحة يطرحها الفيلم، حتى وإن أنكر صانعوه ذلك، قائلين أنهم لا يقصدون سوى المنحى الإنساني، لأن هذا المنحى ويضاف إليه الفني أيضًا تقريبًا ضاع مع الاستحواذ الأيدولوجي، مع عدم تطور بناء الشخصيات وغموض أجزاء كثيرة فيها.
وهذا لا يخص شخصية حبيب فقط وإنما أيضًا الشخصيات التي أحاطته: الابن، الأم، الجار العجوز الطيب، وحتى سعدية جارته التي رأها بمفرده من منظوره وحده، تخاتله وتراوغه كحبيبة، حتى نراها في النهاية مجرد جارة عادية، وأن كل ما يحدث حوله يفتقد الحيوية في نص يفتقد معظمه المنطق الدرامي مثل أننا لا نفهم كيف لشخص لا يعترف بمرضه ولا يتناول دوائه منذ البداية، ثم نجده في النهاية يوافق أن يذهب إلى المستشفى للعلاج، دون تطور درامي يوضح تغير موقفه، وكذلك يفتقد الجماليات الفنية مع تركيزه أغلب الوقت على "كلوزات" للبطل بأسلوب يكاد يختنق منه المتفرج.
بدا الممثل هنا يغلب على المخرج، أو بالأحرى أن الممثل اتجه للإخراج ليتحرر من سلطة مخرج أخر، ويقدم نفسه بالطريقة التي يرغبها وتفجر كل طاقته أمام الكاميرا، قد يرى البعض أن هذا تطور في أداء الممثل وأنه يكشف عن قدرات جديدة له، ربما يبدو ذلك صحيحًا في جزء منه، لكن قبل التقييم لابد أن ندرك الفرق بين التمثيل أمام الكاميرا، والتمثيل على خشبة المسرح.
هناك بعض الأشياء التى تُحسب لصالح الفيلم، أولها جرأة ظافر العابدين لاقتحام مجال جديد، يكمل به مشواره السينمائي، وثانيها أنه فى تقديمه لشخصية الأب، لم يتعاطى معها بإدانة، وإنما كان ثمة تعاطف معه كإنسان، بعيدًا عن الكليشيهات القديمة التي لا تنظر بعين الرأفة لهذه النوعية من الشخصيات، وهو ما فعلته زوجته في الفيلم، حيث تخلت عنه، وحاولت استمالة الابن، لكنه لم يترك والده، بل اعتنى به بحرص شديد ومحبة حقيقية حتى اللحظة الأخيرة، لحظة اعتقال الأب وتبادلهما نظرات واعدة، تؤكد أن الابن سيواصل كشف الفساد وفضح القمعيين من خلال الملف الذي حصل عليه من الأب ووضعه في حقيبته، وهو ما ينذر بثورة وتمرد جديد.
كما أن القصة تعكس شيئًا في الذاكرة التونسية، وتسلط ضوءًا على مشهد تاريخي وجغرافي وإنساني قريب جدًا، يُلخص تحولات متفرقة في السياسة والمجتمع، بهذا المعنى، يكتسب الفيلم أهمية انفعالية ما، لكن في ذات الوقت لابد أن ندرك ضرورة الاشتغال السينمائي، بما يحقق عمل متكامل، كتابة وصورة وتمثيلاً وصوتاً وموسيقى إلخ.. وهذا ما كنت آمله وأتمناه في هذا الفيلم ولم أجده إلا قليلًا.