رمضان فى كل عام هو موسم الإعلانات بامتياز، فالجرعة الإعلانية كبيرة، وجذابة، وتلتهم أفضل أوقات المشاهدة، وتطارد المشاهد فى كل القنوات والأوقات، بما فى ذلك الدقائق التى تسبق أذان المغرب.
وأتصور أن الإعلانات هى التى تحرك وتقود كل المضامين والبرامج التى تحاصرنا خلال الشهر الكريم، أى أن الإنتاج الضخم لمسلسلات وبرامج التسلية والطبيخ هى عَرَض لمرض اسمه الإعلانات.
المعنى أن صناعة الإعلان هى التى تختار نجوم مسلسلات رمضان، وتحدد نوعية المسلسلات والبرامج المقدمة، ثم تفرض شروطها بشأن الأوقات المخصصة للإعلان ونسبتها للبرامج والأعمال الدرامية، وطبعا السيطرة تكون لمن يدفع وهو المعلن، بغض النظر عن حقوق المشاهد فى الاستمتاع بمتابعه مسلسل أو فيلم أو برنامج، التى يتجاهلها الجميع، حتى إنه فى بعض الحالات يزيد الوقت الذى تشغله الإعلانات عن مدة عرض المسلسل أو البرنامج.
أضف إلى ذلك أن كثيرا من الإعلانات تُروّج لقيم وعادات غير مطلوبة وغير ملائمة لاحتياجات المجتمع المصرى فى هذه المرحلة، حيث تروج لسلع وخدمات استفزازية لا يحتاجها أغلبية المصريين وتتجاوز بكثير قدراتهم المالية، مثل شراء قصور وفيلات فى المدن الجديدة والساحل الشمالى وباقى المصايف التى لا يذهب إليها المصريون إلا شهرين فى السنة، وأعتقد أن جمهور هذه السلع والخدمات يمكن مخاطبته بطرق كثيرة ليس من بينها إعلانات التليفزيون التى تتحول فى هذه الحالة إلى آليات لاستفزاز مشاعر أغلبية المواطنين وإشعارهم بعدم القدرة المالية وبأنهم خارج سياق الحياة الطبيعية، ما يؤدى إلى مزيد من الشعور بعدم العدالة الاجتماعية.
التحليل السوسيولوجى لإعلانات رمضان يحتاج إلى جهد بحثى منظم يختبر العلاقة بين مضامين وقيم هذه الإعلانات وبين قيم الشهر الكريم، وكذلك علاقة التحيز الطبقى للإعلانات بتركيز أغلب المسلسلات على حياة المليونيرات وقصورهم وسياراتهم الفارهة ومشاكلهم النفسية، وإهمال تصوير الحياة العادية لأغلبية المصريين. وعلاوة على التحيز الطبقى للإعلانات هناك عدوانية غريبة ضد الذوق العام، فكثير من الإعلانات لا تراعى الآداب العامة وتميل إلى كسر المألوف بأساليب لا تحترم خصوصية شهر رمضان.
لذلك تحرك أخيرا، وبعد طول انتظار، جهاز حماية المستهلك، وأعلن عن إيقاف أربعة إعلانات فقط! وقد نشرت عدة صحف أن الإيقاف لم يتم بشكل كامل، ومن وجهة نظرى كان لابد من وقف عشرات الإعلانات التى تقدم فى رمضان، ومنها على سبيل المثال إعلان البنك الأهلى عن مشروع لإنتاج البراميل يسخر من موت الأب، وإعلانات التبرع لمستشفيات علاج الأطفال حيث لا يحترم خصوصية مرض بعض الأطفال، ويظهرهم فى شكل يتعارض ومواثيق الشرف الإعلانى المتعارف عليها فى العالم، بشأن ظهور الأطفال المرضى فى الإعلانات.
وقناعتى أن تنظيم فوضى الإعلانات فى التليفزيون مهمة صعبة تتجاوز قدرات وإمكانيات جهاز حماية المستهلك غير المؤهل لمتابعة المنتجات الإعلانية وتقييمها، كما أنه لا توجد قوانين كافية وواضحة تمكنه من القيام بهذا الدور. وأتصور أنه يجب تنظيم فوضى الإعلانات فى التليفزيون وكل وسائل الإعلام بما فيها الإعلام الجديد، وإعلانات الطرق من خلال:
أولا: إنشاء لجنة تابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المقرر تشكيله بنص المادة 211 من الدستور، تضع معايير وقواعد إنتاج وبث كل أنواع الإعلانات، وتقوم برصد ومتابعه الأخطاء والتجاوزات.
ثانيا: تشجيع المواطنين لتشكيل جمعيات للدفاع عن حقوق المشاهدة والاتصال، بحيث تتحرك هذه الجمعيات ضد أى انتهاك لحقوق المواطنين الاتصالية والإعلامية وتتصدى لأخطاء القنوات أو الإعلانات.
ثالثا: تشجيع وكالات الإعلان على وضع قواعد ومواثيق شرف للمهنة ومسؤولياتها الاجتماعية تجاه المجتمع والمشاهدين، وإلزام العاملين فى مجال الإعلان بها.
رابعا: إصدار قانون شامل يحدد بلغة واضحة حقوق المواطنين، والمعلنين، وشركات الإعلان، والقواعد والاشتراطات العامة للمنتج الإعلانى من النواحى الفنية والأخلاقية والسوسيولوجية والنفسية، وأوقات الإعلانات ونسبتها إلى إجمالى المسلسلات والبرامج التليفزيونية.