فى هذا الشهر الكريم، يطل علينا الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب فى برنامج تليفزيونى مضىء، لكن لأن الشيخ هو من يتحدث، فقد تحول هذا البرنامج يوما بعد يوم إلى ما يشبه «المانفستو» لروح التجديد التى للأسف، تقف حتى الآن عند الشيخ الطيب، ولا تتعداه إلى من هم دونه فى المشيخة، ويوما بعد يوم يرفض الإمام اللعب فى الجوانب الآمنة، ويرفض أن يطل علينا إطلالة كعدمها كما يفعل آخرون، فقرر الإمام أن يخوض المعارك الفكرية الإسلامية الكبرى، مستعينا بالعلم، ومحصنا بالفهم، ومستأنسا بأرواح آبائنا فى الأزهر الشريف، فظهر الطيب فى صورة القوى دون تعسف، والحاد دون تجريح، والصارم دون بطش، و«الطيب» أولاً وأخيراً.
آخر المعارك الفكرية التى خاضها الإمام كانت تدور حول رأيه فى أمرين: الأول هو أمر مرتكب الكبيرة، والثانى هو أمر من لم يصلهم الرسالة الإسلامية، فقال الإمام مستدلاً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية إن مرتكب الكبيرة ليس كافراً كما تدعى جماعات التكفير، لأن الله وصف مرتكبها بالإيمان، فقال: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات» والإيمان شىء، والعمل سواء كان صالحا أو غير صالح شىء آخر، كما قال «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» فالطائفتان ارتكبوا كبيرة القتل وهى من أشنع الكبائر، ومع ذلك وصفهم بأنهم مؤمنون، وبهذه الفتوى يبطل الإمام جميع ادعاءات الجماعات التكفيرية التى تستحل دم الناس تحت زعم أنهم يرتكبون الكبائر، وأن مرتكبى الكبائر كفارا، أما فتواه الأخرى التى تأتى الآن فى وقتها تماما التى تصلح لتكون منطلقا آمنا ورحبا فى التعامل مع الغرب، فهو قوله بأن الناس فى أوروبا الآن الذين لا يعرفون عن الإسلام إلا ما يرونه على الشاشات من قتل وغيره، ينطبق عليهم ما ينطبق على «أهل الفترة» الذين لن يحاسبهم الله لأنه قال: «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»، فكيف يعذب الله شعوبا مثل الشعوب الأوروبية، وهى لم تعرف عن محمد، صلى الله عليه وسلم، أى صورة صحيحة، وكذلك الحال مع الوثنيين فى أدغال أفريقيا الذين لم تبلغهم الدعوة أو بلغتهم بصورة مشوهة ومنفرة وحملتهم على كراهية الإسلام ونبى الإسلام.
هذا هو شيخ الأزهر الذى لا أخفى عليك حبى الشديد له وإعجابى المتزايد به، ولا أخفى عليك أيضا أننى أعتبر هذا الرجل من آيات عدل الله فى مصر، ومن أروع الهبات التى منحنا الله إياها فى هذا الوقت العصيب الذى يمر علينا، ففى ظل حالة التناحر والاستقطاب التى نعيشها يلتزم الطيب بحدود «العقل» فلا يتطرف يمينا أو يسارا، يرابط حيث الحق يكون، يرفض الانزلاق إلى مستنقع النفاق، كما يرفض الاشتراك فى ماراثون التكفير، كما يرفض اتباع الهوى والشطط فى الحب أو الكره، وفى كل يوم يمر على هذا الرجل يثبت أنه ابن شرعى لقبيلة الكبار من أهل مصر، وعلى رأس القلة القليلة القادرة على صون مكانة منصبها مضيفا إليا رونقا وبريقا حتى إذا ما تركته لخلفها تركت إرثا يصان، وقيمة بها نفتخر.