هو اسم على مسمى، فالنبل أبرز صفاته - كما أعرفه عن قرب ويعرفه الكثيرون غيرى - على مستوى الانحياز للقضايا الإنسانية، وهو في ذات الوقت مثال حي للانتماء لتراب هذا الوطن بوعي وثقافة موسوعية يندر وجودها في هذا الزمن، فهو الباحث الفذ والمفكر الجسور في كل مقارباته نحو التأكيد على الهوية والثقافة العربية والإسلامية، ولو أنه يبدو حادا بعض الشيء في لغته وطريقة تفكيكه للخطاب الديني في عصر التحولات الكبرى، إلا أن نقاء سريرته وانحيازه للفكر المستنير يبرز لنا حجمه الكبير في التصدي بجرأة لا ينقصها الوعي في مجال العلوم الاجتماعية والقانونية، كما بدا لنا من خلال مؤلفاته الكبرى التي ترصد التغييرات التى طرأت على مصر والمصريين، كما وثق وحلل تطور المجتمع المصرى عبر نصف قرن من الزمان على مستوى التدين الشكلي، وتفكيك لغة الخطاب الديني، ومازال قابضا على جمر الحقيقة في زمن التيه.
تعد مؤلفات نبيل عبد الفتاح توثيقا وتحليلا للتحولات الكبرى التى طرأت على مصر وما صاحبها من تغيرات فارقة على صعيد النسق الاجتماعى والسلوكى والأخلاقى والاقتصادى والثقافى والسياسى، دون إغفال العلاقة بين المجتمع والأنظمة المتعاقبة، كما كان دائما وأبدا مهموما بقضايا العدالة الاجتماعية والاستقلال الاقتصادى، الذى لا يقل أهمية فى رأيه عن الاستقلال السياسى.
ولنبيل عبد الفتاح كتب مهمة أنتقي منها أربعة هى من أهم ما كتب "تفكيك لغة الخطاب الديني، خطاب الزمن الرمادي، عقل الأزمة"، ثم التناول العميق والجذري للحركة الإسلامية في كتابه المهم "الوجه والقناع"، حيث أوقف المفكر نبيل عبد الفتاح معظم مؤلفاته على دراسة التركيب البنائي شديد التعقيد للدولة المصرية في تجليها الديني والاجتماعي والسياسي، وذلك بداية من الثورة التحديثية التي بدأها رفاعة الطهطاوي في عهد محمد علي، مروراً بالحقبة الليبرالية الملكية، ثم الحقبة الناصرية وحتى أيامنا، عبر نقض المعايير شبه الجبرية التي أسس لها متطرفون وغلاة ومراكز استعمارية ومستشرقون وغيرهم.
وقد حاول عبد الفتاح عبر تلك المؤلفات تجذيره شديد الأصالة في جل كتبه، لكن الشمول هو العنوان الرئيسي الذي أتت عليه معظم كتبه شديدة التأثير في الفكر السياسي والاجتماعي على الصعيدين المصري والعربي، حيث تتبدى أهمية تلك الكتب وغيرها في أنها ما زالت تمثل إجابة عن أسئلة ملحة في واقع لا يزال يشهد العديد من الالتباسات بسبب ثقافة الاستبعاد والإقصاء وغياب الحوار، كما يتبدى في راسه المزدحمة بالأسئلة الكبرى والشائكة التي حاول من خلالها ابتكار ما يسمى بـ (اللغة الانتقالية مع اللغة الما بعدية)، التي واكبت التحول السياسي والثقافي في الفكر الحديث، كما يتطرق إلى قضايا شديدة الخطر والأهمية؛ على رأسها وظيفة القانون واستخداماته لدى الدولة عبر إعادة بحث مضامين فكرة العدالة وتطورها التاريخي وإساءة استخدام المؤسسة التشريعية باعتبارها تعبيرا عن مصالح قوى اجتماعية مهيمنة.
كل هذا لا ينفصل عن مسارات مفكرنا في جل كتبه، ولعل كتابه (تجديد الفكر الديني) يبدو الأكثر عصفا؛ لأنه الأكثر تحديدا وتأسيسا، وأول ما يمكن أن يلحظه المتابع لأعمال عبد الفتاح أن منطلقه لفكرة (التحديث) ليس اعتماده على تطوير الفكرة الدينية نفسها، كما يذهب تيار ما يسمى باليسار الإسلامي: الجابري، ونصر أبو زيد، وحسن حنفي، وعلي مبروك، وطه عبد الرحمن، ومحمد أركون، وغيرهم، من هنا تبدو أطروحات عبد الفتاح أكثر تماسا بفكرة ما بعد الحداثة؛ لأنها الأكثر راهنية، ولأنها تقدم الواقع على ما عداه من نصوص، وهو في كتابه هذا يبدأ من المنطلق نفسه حيث تشريح العقل النقلي والاتباعي باعتباره آلة إنتاج الماضي، ويشير إلى العنت الذي لاقته محاولات التحديث، ويتعرض لفوضى المصطلح الذي عانى منه الفضاء العام في ظل مناخات من التجهيل وانعدام الكفاءة.
كما يرصد نبيل عبد الفتاح بأسوبه - الذي يبدو غامضا لكثيرين من مدعي الثقافة من فرط ثقافته الموسوعية - دور الدولة في الاستخدامات السياسية للدين وتوظيفه على غير وجه باعتبار الدولة ما زالت تمثل السلطة المهيمنة، ويرصد كذلك النكوص الذي انتهت إليه ثورة التكنولوجيا، إذ يرى أن المؤسسة الدينية؛ سواء مثّلتها الكنيسة أو الأزهر، طمحت إلى صياغة المصطلح الذي يربط الدولة الحديثة بالمرجعية الفقهية، وهو طموح يراه محكوما بالفشل؛ لأن الدولة الحديثة لم تنهض على الصراع العقائدي بل على تفتيته لصالح فكرة المواطنة كأساس للصياغة الجمعية للمستقبل، ومن يعود إلى كتب عبد الفتاح؛ (سياسات الأديان، الحرية والمراوغة، الخوف والمتاهة، النخبة والثورة، واليوتوبيا والجحيم)، سيرى كيف أنه كشف عن المجازات اليومية التي مثلت طوفانا من الانحدار على الخطاب السياسي.
وبحسب المفكر الفذ (عبد الفتاح)، ظل الخطاب السياسي فاقدا دلالته التاريخية من حيث استعادته عوالم ومعاني واستعارات وأزمنة أفلت أو وهنت أو لم تعد لديها الكفاءة على توليد المعاني. من هنا كان يرى أن الحالة المصرية سحقتها الأفكار الجمعية، لذلك ظل واحدا من دعاة تعزيز النزعة الفردية وصيانة المجال الخاص للفرد وحمايته والذود عنه في مواجهة السلطتين المادية التي تمارس العنف غير المقنَّن، والمجازية، التي تقوم على توسيع نطاق التحريم لتوسيع مجالات عملها وتحقيق المزيد من الإخضاع للفرد والقيمة الفردية، وقبل 2011، بسنوات ليست قليلة، نبه نبيل عبد الفتاح، عبر أكثر من مؤلف، إلى جرائم التخريب المنظّم للأمة والدولة المصرية الحديثة، وكان على رأس ما حذر منه كارثة توريث الوظائف.
وفي شجاعة نادرة وصف عبد الفتاح (ظاهرة التوريث) بأقسى التعبيرات، بحيث رأى أنها ليست أكثر من (برطلة مملوكية)، وقد أشار تحديدا إلى تحول الصفوة الحاكمة إلى مفهوم يتجاوز الحكومة على يد من أطلقوا على أنفسهم صناع (الليبرالية الجديدة)، وتأكيدا لمفهوم (جون ديوي) عن الحرية التي يجب أن تحرسها دولة القانون، فإن عبد الفتاح كان يرى أن ضمانات الانتقال إلى نموذج أكثر ديمقراطية تتطلب القضاء على مراكز إنتاج الفساد والاستبداد بمعنييهما السياسي والاجتماعي، ومن هنا فإن من يقرأ تنبؤ عبد الفتاح بمصير النظام السياسي المصري قبل يناير 2011 سيتأكد من رجاحة المقدمات التي ستظل شاهدا حيا على النهاية التي تجاوزت الدراما الإغريقية من فرط سوداويتها.
تكمن أهمية وقيمة الكاتب والمفكر نبيل عبد الفتاح في مقالاته التي تمثل خروجا من رتابة الموضوعات المتشابهة والمتكررة التى يدرسها الباحثون، والرسائل التي يعدونها في أيام ويحصلون على درجتها في أسابيع (واقلب)، في ما يشبه صرخة إدانة لمايجري في مجال البحث العلمي والفكري، لأن مقالاته تضرب في كل أفق ويحتاج كل مثقف إليها، فهو مصري وطني وغيور ومحب لوطنه، ولكل شيء جميل ونبيل استمده من فطرته الطيبة، فهذه المقالات وثيقة على العصر، وساعد الكاتب على ذلك ثراؤه اللغوي ومهاراته اللغوية، فأحسن التنويع وأبدع في الاستعارات الجديدة وأحسن استخدامأساليب الاستفهام والتساؤل، لتتأكد معه أن مصر كم هى عظيمة حقا، عظيمة كما رددها فى نفسه بصوته، وكما تتردد أيضا بصوت وديع الصافى.. عظيمة يا مصر يا أرض النعم.. يا مهد الحضارة.. يا بحر الكرم. ويا بدع الورد يا جمال الورد فيك يا بلادى.
إن عناوين كتب نبيل عبد الفتاح، تصادر على مضامينها وتعلن بلا مواربة انتساب العنف والرصاص إلى الدين الإسلامي دون غيره، هذه المصادرة كثيرا ما تكون بمثابة التعبير الحي عن سلطة الأيديولوجيا التي تحكم خطابات عبد الفتاح وتحضر بين ثناياه وثنايا العديد من الخطابات والتحليلات التي طالت ظاهرة الإسلام، كما في كتابه (النص والرصاص) وفي سياق قراءته لمفهوم العنف السياسي لدى الحركات الإسلامية ولدى الدولة أو ما يسميه بـ (العنف الدولتي) والذي يتجسد بأشكال قميئة ومتخلفة في تعامله مع هذه الحركات، فالعنف الدولتي أو الرسمي لا يتعامل كما يرى عبد الفتاح مع قيم وعقائد وقواعد وأسس الدولة الحديثة، وإنما يغلب في اعتباراته وقراراته نظام المكانة، وهى ظاهرة بالغة الخطورة، وهذا يعني تغليب اعتبارات وقيم نظام مضاد لمفهوم الدولة الحديثة، وقاعدة القانون الحديث، وسلطة سيادة القانون ..إلخ، ولكنه أي كتاب (النص والرصاص) يفصح من جهة أرى ارتباطها الوثيق بين المعرفة والايديلوجيا عندما يجعل من العنف جرثومة أبدية داخل الخطاب الإسلامي، وعلاقة متعدية من المصحف إلى السيف ومن النص القرآني إلى الرصاص وهذا ما تقوله أجهزة الأعلام الغربية حاليا.
في مقدم كتابه الجديد (تفكيـك الوهـم: مصـر والبحث عن المعنى في عالم متحول) الصادر مؤخرا عن هيئة قصور الثقافة، يتجلى عبدالفتاح في تفسير العديد من القضايا الإشكالية الهامة، ويطرح أسئلة عن اللغة وهوية مصر، والواقع الثقافي، ولغة الخطاب الدينى والقانونى والثقافي، محاولا أن ينفض التراب عن العديد من الأوهام، والذي يبدو فيه مولعا باللغة وأساليبها ومجازاتها، وتطور حياتها، منذ مطالع التكوين والقراءات، والتمرينات الكتابية، والممارسات البحثية، بوصفها التجلى الأعظم لحرية العقل والتفكير والتعبير، لأن اللغة هى العالم، من خلالها يمكن معرفة بعض خفايا الشخصية الإنسانية عموما، وفعاليتها وبواطنها العميقة، وهى كاشفة لها من خلال المشافهة أو الكتابة.
ويبدو لي أن الكاتب المبدع أيا كان مجال تخصصه وإبداعه وبحثه، تكشفه لغته وحساسيته اللغوية، من هنا كان الاهتمام الاستثنائى لعبد الفتاح بها، حيث تبدو الأهمية الخاصة باللغة فى درس الأنظمة اللغوية وقواميسها، من حيث قدرتها وكفاءتها على التطور والتكيف السريع مع العوالم المتحولة، في التقنيات والعلوم الطبيعية، والاجتماعية، والأهم الآن مع الثورة الرقمية والذكاء الصناعي، هذا التلاقح والاستعارات اللغوية بين اللغات والثقافات الكبرى - بحسب مفهوم عبد الفتاح، - هو سمت تفاعلات وحوارات زماننا، من ثم تبرز أهمية اللغات الكبرى التى تسود الكتل اللغوية الأساسية مثل اللغة الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والصينية.. إلخ.
وتزداد أهمية الاستعارات في بعض الأحزمة اللغوية التي لا تزال دولها ومجتمعاتها تدور على هامش التاريخ أو خارجه؛ لأنها غير مواكبة لتطورات العلوم الطبيعية والاجتماعية والتقنية، ولأنها أيضا لاتزال تعاني من مشكلات التخلف الاجتماعي والسياسى والثقافى بعامة، ومن تدهور أنظمة ومناهج التعليم مع تعددها واختلافها بخاصة، فضلا عن محاولة بعضهم تسييد نظرة دينية وضعية للغة وبنياتها الأسلوبية، من خلال تسييد الموروث اللغوى القديم وأساليبه في الحياة المعاصرة، على أهمية هذا التراث اللغوي والثقافي.
لقد بدا لي هذا "النبيل المفكر عبد الفتاح" في هذا الكتاب الشامل واعيا في تصوراته المنطقية في قوله: (على الرغم من ذلك تظل اللغة طاقة تحرُر وتحريٍ وانطلاق وأداة كلية القدرة على إبداع المعرفة وسبر الواقع الموضوعي في تغيراته وتحولاته)، وليس أجمل من قوله: (وفي أحيان تغدو اللغة أداة سيطرة على العقل والضمير، وفي بعض الحالات تقف البلاغة التقليدية حاجزا وقيدا أمام تطور الفكر وحركيته مع المتغير والمتحول في الحياة، كم هو جميل جدا (نبيل عبد الفتاح) هذا المثقف الكبير والعالم ببواطن اللغة في تجلياته وفي لغة الخطابات ومعانيها ودلالاتها، وانعكاساتها على الوعى الاجتماعي والسياسي والديني، كما يرسخ في ذهنه من مفاهيم حول الدين والوطن والهوية الثقافية لدي الإنسان المصري والعربي الذي يشغل جل تفكيره في كتبة ومقالاته وأبحاثه العميقة في الدين والقانون والحياة.