صلاح منتصر.. غياب أحد عملاقة الصحافة المصرية

لست أنعيه كاتبا فذا صاحب رؤية وبصيرة وقدرة على التحليل العميق كواحد من عظماء الصحافة المصرية لأبرز قضايانا المصيرية، بقدر ما أنعيه إنسانا جميلا على خلق قويم لا تفارقه ابتسامة بشوش يستقبل بها كل من تقع عينيه عليه، إنه الراحل الكبير صلاح منتصر، صاحب العمود اليومي الشهير بالأهرام (مجرد رأي) والذى شيعه المئات من الصحفيين والكتاب والوزراء والشخصيات العامة، يوم الاثنين الماضى، إلى مثواه الأخير، في جنازة مهيبة خرجت من مؤسسة الأهرام، حيث قضى فيها الراحل عقودا من عمره. صلاح منتصر، من جيل العظماء الذين يتساقطون من شجرة الحرية، وكان له دور في بناء الوعي والدفاع عن الوطن خلال سنوات تولى فيها المسئولية وكانت من أصعب الفترات التي عاشها الوطن منذ ستينيات القرن الماضي، وفوق أنه كان مقاتلا بالقلم لم يتركه لحظة واحدة وخاض العديد من المعارك السياسية والاقتصادية، كان من الشخصيات التوافقية واستطاع توحيد الصحفيين من مختلف الأفكار والآراء، وكان متسامحا مع الجميع وبرحيله تكون الصحافة المصرية قد خسرت أحد قاماتها، ومن أهم كتاب الأعمدة، صحفي وطني من الدرجة الأولى. رحيل الكاتب صلاح منتصر يوم حزين في الصحافة المصرية التي فقدت أحد علاماتها، الذي أفنى نحو 65 عاما من عمره في الصحافة وكان يسجل نجاحا كل يوم، ومشواره كان ثريا، وتميز في رئاسة التحرير ورئاسة مجلس الإدارة، وفوق ذلك كان إنسانا عظيما بمعنى الكلمة، فأذكر له يوم أن تقدمت بخطاب من كلية الآداب بسوهاج قسم الصحافة، أن استقبلني استقبالا حارا ولم تكن تربطي به علاقة شخصية وقام بنفسه بعد حوار معه لمدة عشر دقائق استشعر خلالها أني أحمل شيئا ما من الاستعداد الصحفي، وتوجه معي إلى الأستاذ (فريد مجدي) رئيس قسم السكرتارية الفنية بالجريدة، وقدمني له قائلا: أقدم لك هذا الشاب الذي لديه استعداد خاص للالتحاق بمهنة الصحافة، عليك أن تتابعه (يافريد) وتكتب لي تقريرا شهريا عن تطوره المهني. عجبت وقتها كيف لصحفي وكاتب كبير ومدير تحرير الأهرام أن يقف بجواري وأنا شاب في مقتبل العمر، لكني عرفت فيما بعد أنه إنسان نقي السريرة كعادة جيله من الكبار في المهنة المقدسة، فكنت ألتقيه بين الحين والآخر يسألني: كيف حالك وهل تشعر بتطور مهني معنا في الأهرام؟ ومن ثم شعرت بحنو الأب والمعلم الكبير الذي يحرص على متابعة تلاميذه، وقد أوكل لي وقتها مراجعة مقاله (مجرد رأي) ويحرص على أن أناقشه في أفكاره التي تنوعت بين السياسة والاقتصاد وخاصة قطاع البترول الذي أسس فيه مدرسة صحفية احترافية متقنة، فضلا عن اهتمامه بالفنون التي كانت تقابل اهتمامي، وكنت أقوم بتصحيح بعض المعلومات فكان يتقبلها بصدر رحب، حتى أنه قال لي لماذا لاتنقل إلى صفحة السينما أو الصفحة الأخيرة. لكني كنت أقول له إني أفضل البدء بالعمل في قسم السكرتارية الفنية (الإخراج)، لأنه المطبخ الحقيقي الذي يمكن من خلاله تعلم أصول المهنة، تلك المقولة التي شجعته للقيام معي وتقديمي لرئيس السكرتارية الفنية، ووقتها رد على قائلا: إصرارك على هذا القسم يؤكد صدق موهبتك ورغبتك في تعلم أصول المهنة، فقد كان - رحمه الله - كاشفا للمواهب وصاحب رؤية ورأي، وهو ما انعكس على جيلنا من خلال مقالاته التي كان يكتبها تحت عنوان (مجرد رأي)، وشاءت الأقدار أن ينتقل بعد التحاقي بالأهرام بأقل من سنة إلى دار المعارف رئيسا لمجس الإدارة، ورئيسا لتحرير مجلة (أكتوبر)، حيث طلب مني الانتقال معه لها، لكني فضلت البقاء في الأهرام، وكان طوال الوقت يتصل بي وبرئيسي للاطمئان على التطور المهني الذي كنت أحصده يوميا حتى صرت واحد من أهم مخرجي هذا الزمان. برحيل (منتصر) أكون قد فقدت قيمة مهنية نعتز بها، وأبا روحيا لمهنة القلم بما لديه من القدرة على الأداء المهني الرفيع، وتعلمت منه كيف كان يدقق في المعلومة، وظل صحفيا رفيع المستوى وكاتبا مهما حتى لحظاته الأخيرة، فضلا عن كونه كان يحوي كل المقومات الإنسانية، لذا تبدو خسارتي لا تعوض لي وللصحافة في مصر، لأنه كان من الكتاب القلائل الذين يبحث عنهم القراء، وأثرى الصحافة وله مدرسة وتلاميذ وأنا واحد منهم ، بالإضافة إلى أنني أصبحت واحدا من قاعدة عظيمة من القراء في مصر والوطن العربي، وبرحيله فقدوه وفقدوا مقاله (مجرد رأي)، إنه الراحل أستاذ أجيال الذي تتلمذنا على يديه قبل الانضمام لهذه المهنة العظيمة رفيعة الشأن بشكل نظامي، حيث كنا نتعلم الكثير من كتاباته. كان صلاح منتصر أحد منارات الصحافة المصرية وصاحب خلق، ونبل وإحساس وتواضع وبه كل مواصفات الإنسان الجميل والقلم المنير وترتيبا على ذلك سيترك فراغا كبيرا في نفسي ونفس كل أبناء جيلي لأنه ببساطة يعد أحد رموز الأهرام وكتابها الكبار الذين لهم بصماتهم الواضحة في تاريخ المؤسسة. عندما كتب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل مقاله الذي يستأذن فيه بالانصراف، قلت له وقتها: (إذنك معك)، وأكدت أنه غير جاد في ذلك، بل قلت إنه لن ينصرف، وهو ما حدث فعلا!، بيد أن الكاتب الكبير صلاح منتصر لم يستأذن في الانصراف، وكان قادرا منذ أن كتب عموده اليومي (مجرد رأي) في (الأهرام) على أن يستمر في كتابته حتى النفس الأخير، ولعل اعتذاره عن عدم الكتابة كان لمرات قليلة جراء المرض الذي حاصره أكثر من مرة، وعندما علمت بخبر وفاته، دخلت على موقع (الأهرام) واكتشفت أن آخر عمود كتبه كان في 16 مارس الماضي، وقد لاحظت أن نفسه في الكتابة كان دائما بمداد من الحيوية والقتال في مهنة القلم في مختلف القضايا المصرية والعربية والدولية بعمق وتركيز نادر يؤكد دأبه الشديد على جب المهنة والوطن على الرغم من هدوئه وأدبه الجم. سوف يذكر سجل الصحافة المصرية حملته الشهيرة على الإدمان والتدخين، وزيارة الفنانة سمية الألفي وزوجها الفنان فاروق الفيشاوي له في مكتبه وقت نشر حملة الإدمان، وفيه اعترف بإدمان الفيشاوي، وكتب عن نضال الزوجة في إتمام عملية إقلاعه، وعلى جانب آخر سيذكر التاريخ له أنه كان يتمتع بكاريزميته وفكره، عندما اعتبر أن سبب أزمة المساكن نجم عن تخفيض الإيجارات، وتخصيص القطاع العام وأهل الثقة وليس الخبرة كان أساس للفساد، قائلا: (هذا لا يعني أن الغرض وقتها كان الإصلاح - لكن الوسائل في التنفيذ كانت تساعد على الإفساد)، وصف (منتصر) عصر عبد الناصر بأنه كان عصر الزاعمات، خاصة وأن إفريقيا لم يكن يتمتع بالاستقلال من الاحتلال فيها سوى 5 دول، بينما حاليا العصر يسمى عصر الرؤساء المصلحين)، مضيفا: (في رأيي أن الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس مصلح وليس زعيما)، واعتبر (منتصر) أن الدرس الذي خرج به من تجربة عمله في الصحافة إبان نكسة 1967 هو أنه لا قداسة لبشر، خاصة القداسة التي تنظر بها الشعوب للرؤساء، والسياسة مصالح منذ القدم ولا نعيب على الدول التي تعمل لمصلحتها. وللكاتب الصحفى صلاح منتصر نحو 15 كتابا، تتميز بأنها مثل مقالاته يتوجه بها لعموم القراء، وبينها ما يمثل توثيقا وتحليلا لفترات سياسية مهمة، ومنها كتاب (توفيق الحكيم فى شهادته الأخيرة)، الذي يسرد فيه الأيام الأخيرة لتوفيق الحكيم حين يتحدث بنفسه عن شعوره بعد موت أصدقائه والأعزاء لديه: (لم يعد لى سوى الله.. وفى كل دعواتى السابقة إليه لم يحدث أن دعوت بشدة طالبا منه أن يأخذنى إلى جواره مثل هذه المرة، لأن مهمتى فى الحياة انتهت.. تصور أى مسرح فى آخر الليل بعد أن يغادره الجمهور وينصرف ممثلوه وعماله.. مسرح خال دون جمهور ولا ممثلين ولا عمال ولا موظفين، ما الذى يبقى له سوى أن يمد عامل يده ويطفئ ما تبقى فيه من أنوار، أنا هذا المسرح وهذا الوقت بالذات هو الوقت المناسب الذى يجب أن ينطفئ فيه نوره). وكتاب (الشعب يجلس على العرش)، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات المتنوعة التى تضم تجارب إنسانية وسياسية واجتماعية جديرة بالقراءة والتحليل وغنية فى المعلومات الموثقة، فيما عرض فى كتابه (الذين غيروا فى القرن العشرين) أهم الأحداث وأهم الشخصيات التى أثرت فى القرن العشرين، ويلقى الضوء أيضا على أهم الاختراعات التى أثرت فى هذا القرن، وقد كتبهما بأسلوب رشيق يخلو من المحسنات اللفظية بقدر ما كان يركز على الوقائع والحقائق المذهلة في حياة المصريين والعالم، وهما لا يخلوان من الدقة المعلوماتية التي تمتع بها في حياته المهنية،خلصة أنه كان معروفا عنه ولعه بالأرشيف الذي صنعه لنفسه قبل عصر الكمبيوتر. أما كتابه (الصعود والسقوط: من المنصة إلى المحكمة)، فهو محاولة لسرد أهم الأحداث التاريخية التى جاءت بحسنى مبارك رئيسا لمصر وحتى سقوطه ومثوله للمحاكمة، وهو أحد أكثر الكتب الجامعة لمواقف وأحداث حياة الرئيس الراحل، منذ بداية دخوله معترك السياسة كنائب للرئيس الراحل محمد أنور السادات، إلى أن أصبح رئيسا للجمهورية ومن الصعود الذى بلغ قمته بدأ السقوط الذى انتهى به متهما أمام المحكمة داخل قفص اتهامها راقدا على سرير طبى، ما يثير تساؤلا: (هى حالته الصحية التى جعلته كذلك فعلا.. أم أنها بقية من كبرياء جعلته يتهرب من الوقوف فى القفص احتراما للمحكمة، وهو الذى كان يقف الكل له عند دخوله أى مكان). قبل أن يفارقنا صلاح منتصر إلى دار الحق أذكر له بعضا من آخر مقالاته التي تكشف عن عمق ثقافته الموسوعية حين كتب عن تجربة (التابلت) وأثرها على البيت المصري وعملية التعليم برمتها، وأقف بقدر من التأمل أمام اهتمام (صلاح منتصر) في تحليله الإنساني حول قواعد السوق المعروفة، وهو هنا يملك قدرة عجيبة على استيعاب هموم البسطاء والحديث عنهم بفرط من الإنسانية، حيث قال في فضية التدخين، قائلا: الآن حاول أن تكون أمينا مع نفسك وتجيب كتابة على سؤال: لماذا لا أدخن؟ وستجد أسبابا كثيرة تتعلق برائحتك ونظافتك وتأثير ما تدخنه على أطفالك وأهم من ذلك كله صحتك، فلم يعد فى العالم ما يضر الصحة مثل التدخين اعتبارا من شعر رأسك إلى أصابع قدميك، حتى يمكن إعتبار التدخين أسوأ اختراع عرفته البشرية، فمختلف أنواع السرطانات وعلى رأسها سرطان الرئة سببها التدخين، ولهذا أصبح عليك أن تختار بين مزاجك وصحتك، بين أن تدخن لترضى مزاجك الذى سيتعكر بضعة أيام لو بدأت فى الإقلاع عن التدخين، أو أن تقلع وتتحمل سوء المزاج فى الوقت الذى تحمى فيه صحتك. فارق الحياة الكاتب المصري الشهير (صلاح منتصر) بعد صراع شديد مع المرض عن عمر يناهز سبعة وثمانين تعرض خلالها لوعكة صحية ثقيلة مفاجأة منذ أيام تم نقله إلى المستشفى، وترك الكاتب العظيم بصمته الجميلة التي تتعمق بداخلنا يوم بعد يوم، ونحن الآن نتقدم ببالغ الحزن والأسى والمواساة، داعيين من الله عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويصبر أهله وذويه على فراق أحد عملاقة الصحافة المصرية.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;