فتاة جميلة ممشوقة القوام.. عندما تراها ربما تستحضر صورة "الموناليزا"، تبدو مهتمة كثيرا بنفسها، تحمل في ملامحها جينات "فنانة" أو عارضة أزياء ناجحة في المستقبل، بينما ارتبطت تلك الصورة المبهرة بالدماء، نظرا لانتشارها كالنار في الهشيم، عبر مواقع "السوشيال ميديا"، مرتبطة بحادث مقتلها ذبحا على يد زميلها "العاشق المجنون"، فصارت صورتها الجميلة "منغصا"، بين متعاطف مع تلك الحالة المغدور بها، وآخر يتطلع لاستلهام شخصية المفتش "كورومبو"، ساعيا لإصدار الأحكام والإدلاء برؤيته، دون معرفة اى تفاصيل، عبر استنباط "ما وراء" هذا التعارض الفج بين جمالها الصارخ ونهايتها البشعة، وكأن المجتمع قرر أن تبدأ المحاكمة مبكرا، في إطار شعبي، معتمدا على كلمة من ذويها أو ذويه، دون أوراق أو أدلة أو حتى تحقيق.. لتتحول نيرة أشرف إلى شاهدا جديدا على حالة قديمة، يضع فيها الجميع نفسه في كل الأدوار، بدءًا من الشرطة مرورا بالقضاء وحتى تقمص دور الجاني وربما الضحية.
هكذا أصبح الـ"أوفر" الذي يقدمه "التريند"، لرواد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يحمل في طياته أبعاد الـ "ما ورائيات"، متجاوزا تلك الجوانب التقليدية، التي تربينا عليها، والتي وضعت مبادئ رئيسية، منها أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" وأن "الاعتراف سيد الادلة"، و"لا مبرر لجريمة"، لتضع قواعد "السوشيال ميديا" معايير أخرى، تقوم في البحث "وراء الجريمة"، دون معرفة أي تفاصيل.. ربما يمكنك القيام بذلك من صورة الجاني والمجني عليها لتستنبط دوافع المجرم، فتستبق القاضي في إصدار الحكم عليه، بل وبإمكانك كذلك استصدار حكما أخرويا على الفتاة، والتي لاقت ربا، أكثر رحمة من سكين قاتلها وسهام الألسن التي مثلت بها وبصورتها الجميلة خلف تلك الشاشات، كما يمكنك القيام بدور مؤلف محترف، في صناعة السيناريوهات السينمائية، وتحت عناوين براقة، على شاكلة "الجميلة والقاتل"!
عروض "السوشيال ميديا" لا تنتهي لروادها، فيمكنك الاستناد على "شائعات"، وتصريحات مضروبة، ليكون لديك "جسد" مكتمل للقضية، حتى وإن كان جسدا مشوها، يبرر الجريمة، مهما كانت أسبابها، ويشوه الجمال، ويجعله دافعا للقتل، تحت ستار شعارات زائفة، بينما يجد بعضا من المتابعين فرصة نادرة لمزاحمة أصحاب الفتاوى، الذين ركزوا في أحاديثهم على ملابسها وتبرجها، متجاهلين حرمة قتل النفس، أو قدسية الموت، ليفتح الفضاء الإلكتروني الباب أمام المزيد من الفيروسات المجتمعية التي تعشق إثارة الجدل الدائم عبر الغوص في الاعراض، وإلقاء الاتهامات جزافا، سواء عليها بعدما واراها الثرى، أو على أسرتها المكلومة بجرح فقدان الابنة.. وما أدراك به من جرح.
الأمر لا يقتصر على تشويه معايير الحكم على الأحداث، وإنما امتد إلى بعض المفاهيم الإنسانية، وأبرزها في هذه القضية هو الحب، تلك العلاقة السامية، التي تقوم على التضحية بالنفس لحساب الحبيب، لتتحول القاعدة، فى زمان "السوشيال ميديا" إلى التضحية بالحبيب نفسه وقتله، حال رفضه للمشاعر المقدمة إليه من قبل الطرف الاخر، وهو ما يقوض ما تركته تلك القصص الاسطورية عن الحب، منذ زمان روميو وجوليت، حتى قصة الاستاذ حمام والتلميذة ليلى، والتي جسدها باقتدار العظيم نجيب الريحاني والجميلة ليلى مراد في فيلم "غزل البنات"، والذي حمل رسالة واضحة لخصتها دموع الاستاذ عندما كان يسمع أغنية الفنان محمد عبد الوهاب الشهيرة "عشق الروح"، والتي علمت أجيال، ومن بينهم أبناء جيلي لذة التضحية من أجل الحبيب، وكيف أن تلك العلاقة الانسانية ليست رغبة في الامتلاك، وإنما سعي متواصل لاسعاد الطرف الاخر، إلى الحد الذي أكون فيه سعيدا لمجرد أنه سعيد، حتى وإن كانت سعادته في الابتعاد عني.
وعلى ذكر فيلم "غزل البنات"، يبدو الاختلاف واضحا بين زمان "الأبيض والاسود"، وعندما كانت المعايير متزنة، والحكم على الامور مرهونا بالناموس الطبيعي الذى خلق به الله الأرض ومن عليها، من جانب، وحقبة "السوشيال ميديا"، والتي تزامنت مع ترويج فج للجريمة والفوضى في العديد من الاعمال الدرامية والبرامج، بل ووصلت إلى كلمات الأغاني، والرقص بالأسلحة البيضاء، على الشاشات من جانب أخر، فتحول شعار "الجريمة لا تفيد" إلى "الجريمة هي الحل" وصارت مقولة "الحب تضحية" إلى "الجريمة باسم الحب".
وبين زمان "الأبيض والأسود" وحقبة "السوشيال ميديا"، ثمة حالة من التعارض الصارخ، عندما كان الاحترام متبادل في الشوارع، بين الجميع، بينما كانت هناك أعمال هادفة، تسمو بالمشاعر الإنسانية، بينما لا تفتح المجال أمام تبرير الجرائم، وهو ما يعكس الأهمية القصوى للدور الذي ينبغي أن يقوم به الإعلام، ليس في ملاحقة "التريند"، وإنما في تصويب المفاهيم والعودة إلى أخلاقيات الماضي، بحيث لا تطغى عيوب التطور التكنولوجي على حياة البشر، الذين يمكنهم الاستفادة منه وتطويعه وليس العكس.