لم يكن النجاح المصرى منقطع النظير فى وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، جديدا على الإطلاق، فقد سبق وأن قامت القاهرة بدور الوسيط، فى أحداث مماثلة، ربما أبرزها فى شهر مايو من العام الماضى، فى مشهد يبدو متشابها تماما مع المستجدات الأخيرة، لتقوم الدولة المصرية بتوجيهات من الرئيس السيسى، بدورها، انتصارا للفلسطينيين، وحقنا لدمائهم، عبر الوساطة، لتحقيق وقف إطلاق النار، فى مشهد يعكس العديد من الحقائق أبرزها مكانة مصر الكبيرة، ودورها القيادى، فى محيطها الإقليمى، إلى الحد الذى سمح لها بفرض كلمتها ورؤيتها، لتحقيق الهدنة، التى من شأنها حماية أبناء الشعب الفلسطينى، ومنع معركة جديدة، ستؤدى حتما، حال اندلاعها، إلى المزيد من حالة عدم الاستقرار، ربما لا تحتملها المنطقة فى ظل الأوضاع الراهنة، التى تجاوزت النطاق الإقليمى، فى الآونة الأخيرة، إلى حالة صراع دولية يتداخل فيها العالم بأسره، ويجنى ثمارها.
ولعل الحديث عن الدور المصرى، فى احتواء العدوان الأخير على قطاع غزة، لا يقتصر فى جوهره، على المشهد الأخير، وإنما يتجسد فى دبلوماسية "طويلة المدى"، انتهجتها الدولة، منذ سنوات، تعتمد نهج "الوساطة"، لتتجاوز بها النطاق الإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط، إلى نطاق أوسع، ليتحول هذا النهج إلى أحد أهم أدوات السياسة الخارجية، فى إطار أشكال متعددة، منها ما هو ثنائى، بينما تتجاوز بعضها هذا الإطار المحدود، فى ظل صراعات متعددة الأطراف، وهو ما ساهم فى حالة الزخم التى باتت تحظى بها الدبلوماسية المصرية، ناهيك عن امتلاكها كافة المقومات التى تؤهلها للقيام بهذا الدور، ليصب الأمر فى النهاية فى صالح القضية التى تمثل أولوية للعالم العربى بأسره.
فلو تحدثنا عن القضية الفلسطينية تحديدا، نجد أن الانتصار الأكبر الذى حققته الدولة المصرية، يتجسد فى قدرتها، ليس فقط فى وقف إطلاق النار، وإنما فى إعادة الزخم لتلك القضية، لتعود إلى مكانتها باعتبارها "قضية العرب الأولى"، بعد محاولات دامت لسنوات لتهميشها، من قبل العديد من القوى الدولية والإقليمية، التى دأبت على بث سموم الفوضى فى المنطقة، حتى تتوارى "القضية الأم" لصالح مخاوف الأمن وعدم الاستقرار التى شهدتها المنطقة فى العقد الماضى، إثر "الربيع العربي".
عودة القضية الفلسطينية لمكانتها الأولى، ربما كان ثمرة جهود عملاقة بذلتها الدبلوماسية المصرية، تدور فى معظمها حول مفهوم "الوساطة الدبلوماسية من خلال العديد من المحاور، أولها على المحور العربى، عبر التقريب بين وجهات نظر الدول العربية، وتوحيد كلمتهم، ودفعهم نحو اتخاذ مواقف موحدة، عبر تجاوز الخلافات البينية، وتحييدها، فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية التى ترتبط مباشرة بالمصالح العربية، وتحديدا تلك التى تمس الأمن القومى العربى، وفى القلب منها فلسطين، بينما نجحت فى جانب أخر، إلى التقريب بين الفصائل الفلسطينية، عبر استضافة العديد من الاجتماعات فى القاهرة، والتوقيع على اتفاق للمصالحة، لتصبح الحالة الفلسطينية والعربية مؤهلة لاستعادة الزخم الدولى نحو القضية الرئيسية، بعدما كان الحديث الغربى المتواتر يعتمد على ذريعة "الانقسام" سواء فلسطينيا أو عربيا.
نجاح الدولة المصرية فى القيام بدور الوسيط، يرجع فى الأساس لامتلاكها كافة المقومات التى تؤهلها لذلك، بدءً من الموقع الاستراتيجى، والذى يرتبط جغرافيا بالعديد من المناطق حول العالم، وبالتالى الأزمات التى تلاحقها، ناهيك عن ارتباطها التاريخى بالقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى قدرتها على تبنى سياسات مختلفة عن تلك التى تبنتها فى العهود السابقة، خاصة فيما يتعلق بإعادة هيكلة تحالفاتها، وتوجهها الصريح نحو التنوع، والابتعاد عن نهج التبعية المطلقة لقوى بعينها، وكذلك اعتمادها مبدأ الشراكة الدولية، من خلال القيام بدور مؤثر فى العديد من الأزمات التى لاحقت العالم خلال السنوات الماضية، وبالتالى تقديم نفسها كقوى مؤثرة يمكنها القيام بدور أكبر، مما أضفى قدرا كبيرا من الزخم للدور المصرى فى السنوات الأخيرة.
فلو نظرنا إلى التعامل مع كافة الأطراف، نجد أن الدبلوماسية المصرية اعتمدت نهجا يقوم فى الأساس على "تصفية" الخلافات مع كافة أطراف المعادلة الدولية، أو على الأقل تحييدها، لتحقيق المصالح المشتركة، وهو ما يمنحها القدرة على المناورة، بالإضافة إلى توسيع دائرة دورها، بعيدا عن قضايا الصراع التقليدى، إلى الأزمات المستحدثة، على غرار التغيرات المناخية، لتتحول إلى القيام بدور قيادى أكبر عبر الحديث أمام العالم دفاعا عن الدول المستضعفة، تزامنا مع التحرك نحو تعميم تجربتها التنموية "الصدي.