سياسة "الترشيد" تبدو السبيل الوحيد الذى باتت تلجأ إليه العديد من الدول حول العالم، باختلاف إمكاناتها، في المرحلة الراهنة، لمواجهة "حزمة" من الأزمات، غير المسبوقة، سواء في طبيعتها، أو تداعياتها أو حتى تزامنها، لتتحول من نطاقها المحدود، سواء جغرافيا أو زمنيا، إلى نطاق غير محدود، يتجاوز مناطق الصراع وأقاليمها، على غرار الأزمة الأوكرانية، لتمتد تداعياتها إلى العالم بأسره، في صورة أزمات كبيرة، وصعبة الاحتواء بالوسائل التقليدية، على غرار أزمتي الغذاء والطاقة، والتي تضع دول العالم النامي والمتقدم، على حد سواء، على حافة الخطر، وهو الأمر الذي تكرر، في أزمات سابقة، كالجائحة، أو في ظل مخاوف مستقبلية جراء تداعيات أزمة المناخ وتأثيراتها العميقة على العالم بأسرة، دون تمييز أو تصنيف.
فلو نظرنا إلى دول أوروبا الغربية، كنموذج لـ"حزمة" الأزمات الفريدة التي يشهدها العالم، نجد أن ثمة تأثيرات مباشرة تتعلق بالحالة الأمنية تعانيها دول القارة العجوز، إثر الأزمة الأوكرانية، باعتبارها جزء من منطقة الصراع، ناهيك عن تأثيرات أخرى جراء نقص إمدادات الطاقة، وكذلك نقص السلع الغذائية، بالإضافة إلى تداعيات كبيرة باتت تشهدها على خلفية ظاهرة التغير المناخي، تتجلى بوضوح في موجة الحرائق غير التقليدية التي تشهدها الغابات في عدة دول أوروبية، وكذلك مخاوف كبيرة جراء شتاء قارص محتمل مع استمرار نقص الغاز الطبيعي، في الأشهر المقبلة، وهو ما يضع حكومات أوروبا في مأزق حقيقي، لا تجد أمامه سوى التحرك نحو "الترشيد"، في سبيل مواجهة الأوضاع الحالية.
ولعل التدفق المفاجئ للأزمات في أوروبا، في الأشهر الماضية، دفع القارة، سواء جماعيا، عبر الاتحاد الأوروبي، أو فرديا، من خلال الدول الأعضاء، إلى اتخاذ خطوات من شأنها ترشيد الاستهلاك، منها على سبيل المثال، إطلاق خطة جماعية من شأنها خفض استهلاك الغاز طواعية بنسبة 15% بدأت من أوائل أغسطس الجارى إلى مارس من العام المقبل مقارنة بمتوسط الاستهلاك في الأعوام الخمسة الماضية، كما اتخذت دولا، من بينها ألمانيا، قرارات بإطفاء إنارة المباني التاريخية والمعالم في العاصمة برلين، ترشيدا لاستهلاك الكهرباء، جراء نقص الغاز الناجم عن أزمة أوكرانيا، بينما اتجهت دولا أخرى،على غرار هولندا، نحو ترشيد استهلاك المياه، على خلفية النقص الحاد، والذي يمثل أحد أبرز التداعيات لـ"التغيرات المناخية".
وهنا تصبح سياسة "الترشيد" هي السبيل أمام أعتى الاقتصادات العالمية، لمواجهة الأزمات المستحدثة، في ضوء حقيقة مفادها أن التداعيات الكبيرة لـ"حزمة" الأزمات التي تواجه العالم، ليس قابلة للتنبؤ، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة إلى الاحتفاظ بالموارد المتاحة والعمل على تطويرها، بعيدا عن النهج التقليدي، الذي يقوم في جزء كبير منه على "الإهدار"، عبر الاستخدام غير الضروري لها، وذلك في إطار مواجهة مستقبل يبدو ضبابيا، إلى حد كبير، فيما يتعلق بمستقبل تلك الموارد، على المدى المتوسط أو حتى القريب.
الأمر يبدو أكثر حساسية بالنسبة للمناطق الأخرى من العالم، في ظل ظروف تبدو أكثر صعوبة، حال مقارنتها بدول القارة العجوز، جراء أوضاع اقتصادية صعبة، تتزامن مع الحاجة الملحة لمواصلة العملية التنموية، تضع المواطن جنبا إلى جنب مع الحكومة، في موضع "المواجهة" ضد ظروف عالمية استثنائية وغير تقليدية، في المرحلة الراهنة.
ولعل التوجه نحو سياسة "الترشيد" يمثل توجها مصريا بامتياز، في المرحلة الراهنة، بينما يبقى الرهان، في واقع الأمر، ليس فقط على الأداء الحكومي، وإنما أيضا على وعي المواطنين، في ظل إدراك أن الحفاظ على الموارد المصرية، وعدم إهدارها، أصبح بمثابة ضرورة ملحة، جنبا إلى جنب مع العمل الجاد، على زيادة الإنتاج، سواء في المجال الزراعي، أو الصناعي، مع الالتزام بمعايير التنمية المستدامة، ليس فقط لمجابهة التداعيات المحتملة لـ"حزمة" الأزمات الراهنة عبر تحقيق الاكتفاء الذاتي ، وإنما أيضا لتحقيق طفرة اقتصادية، عبر التصدير، ناهيك عن القيام بدور أكبر للمساهمة في حل بعض الأزمات العالمية.
ويعد النجاح المصري منقطع النظير، في مواصلة التنمية الاقتصادية، في ظل أزمة الجائحة، عبر تحقيق معدلات إيجابية، من النمو الاقتصادي، في الوقت الذى شهدت فيه كبرى دول العالم أرقام صفرية أو سلبية، نموذجا يحتذى به، حيث يمثل انعكاسا صريحا على قدرة "الجمهورية الجديدة" على ليس فقط على "المجابهة"، وإنما في واقع الأمر "التحدي".
وهنا يمكننا القول بأن المواطن يبقى "رأس الحربة" في مواجهة الأزمات الجديدة، بينما "الوعي" هو بمثابة السلاح الحقيقي الذي يملكه لدعم بلاده، في مرحلة حساسة وغير مسبوقة، من خلال ترشيد كافة أوجه الاستهلاك، لتخفيف العبء على نفسه، من حيث التكاليف التي يتكبدها من جانب، بالإضافة إلى دعم رؤية بلاده القائمة، لتحقيق الاكتفاء الذاتي على الأقل وبالتالي تخفيف الضغوط التي تواجه الاقتصاد، بل ومساعدتها لمواصلة العملية التنموية في ظل الأزمات الصعبة.