لقد بدأ الفتح الإسلامى للأندلس (إسبانيا) سنة 91هـ/710م، وكان الإيمان والرغبة فى نشر الإسلام هو الدافع الحقيقى وراء هذا الفتح العظيم، وساهمت دقة التنظيم والتخطيط والإعداد، والصراع الداخلى الذى كان قائمًا بين النصارى، والظلم الذى كان سائدًا فى سرعة سقوط البلاد تحت حكم المسلمين، ورغبة السكان فى التخلص من الحكم الجائر، وفى رسالة موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد فى دمشق وصف هذا الفتح بالحشر فقال: «لم يكن هذا فتحًا كغيره من الفتوح يا أمير المؤمنين، فإن الواقعة كانت أشبه باجتماع الحشر يوم القيامة، هذا هو مشهد البداية للفتح العربى والإسلامى للأندلس، وظل الإسلام منتصرا وكان هناك العديد من الأسباب لبقاء حكم المسلمين ومنها الصراعات التى كانت تشتعل بين النصارى، فتضعف قوتهم وتشغلهم عن المسلمين، وكذلك التقليد الجرمانى القديم الذى كان ينص على أن الملك إرث يقسم بين أبناء الملك المتوفَّى، واستمر النصارى فى تطبيق هذا المبدأ الذى أدى إلى تفتيت دولهم وقوتهم، بينما كانت النصوص الشرعية لدى المسلمين واضحة وصريحة، فأمرت بأن تكون البلاد الإسلامية تحت سلطة حاكم واحد، وحرَّمت وجود خليفتين على المسلمين ولو بالمبايعة، وحرمت الاستجابة لدعوات الفرقة بين المسلمين، إلا أن منصب الملك أو الخلافة عندما فقد مكانته وهيبته ومنزلته تفرقت كلمة المسلمين، وكان هذا إيذانًا بزوال حكمهم، وبدلاً من أن يستفيد المسلمون من الخلافات بين النصارى، استطاع النصارى أن يستغلوا الخلافات بين المسلمين، وأن يتحكموا بمصيرهم بتغذية تلك الصراعات، حتى ولو بدعم الخصمين فى وقت واحد.
كما اعتمد الأسبان على سياسة الأرض المحروقة لتهجير السكان بالبطش والإرهاب فى كل حصن أو مدينة يسيطرون عليها، وأدركوا أن قوتهم بوحدتهم، فوحَّدتهم المصالح كما وحدتهم الأهداف، واستطاعوا من خلال ما سمى بـ«حرب الاسترداد» أن يوحِّدوا النصارى بمساندة من الكنيسة ورجالها، بينما تفرقت كلمة المسلمين ولم توحدهم العقيدةُ ولا المصالح ولا المصائب، وكانت الأموال التى يقدمها المسلمون للنصارى فى عهود ضعفهم سببًا لتقوية جيوش النصارى، وتدفق المرتزقة إليهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد! وإن علينا أن نأخذ العبرة، وأن نعمل بما أمرنا الله تعالى به ورسوله- عليه الصلاة والسلام- قال سبحانه: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «آل عمران: 103». وقال تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «الأنفال: 46».
ولكن هناك من الباحثين والمورخين العرب الذين يرون أن هناك أملا فى النصر، وهو ما أكده الدكتور راغب السرجانى، الذى كتب تحت عنوان «سقوط الأندلس وأمل النصر!!» بعد الدرس الأول والوقوف على عوامل وأسباب سقوط الدول والحضارات، كان هذا الدرس الثانى، وهو ما نستقيه من تاريخ الأندلس، حيث إنه لا يغيب الأمل أبدًا فى نصر الله، فإن الله دائمًا ما يُقَيِّض لهذه الأمة مَنْ ينصرها، ومَنْ يُجَدِّد لها أمر دينها وقد حدث مثل ذلك كثيرًا فى تاريخ الأندلس، كان منه ما حدث فى نهاية عهد الولاة، وذلك بقيام عبدالرحمن الداخل، ثم ما حدث- أيضًا- فى نهاية الإمارة الأموية على يد عبدالرحمن الناصر.. وهكذا فى كل عهد تجد مَنْ يجدِّد لهذه الأمة أمر دينها، تجد يوسف بن تاشفين، وتجد يعقوب المنصور الموحدى، وتجد يعقوب المنصور المرينى، وغيرهم الكثير وقد يتساءل البعض قائلاً: لقد انتهى الإسلام من بلاد الأندلس بالكلية، فأين ذاك القيام الذى من المفترض أن يكون بعد هذا الانتهاء، ما دامت كانت قد جرت السُّنَّة على ذلك؟!
وفى معرض الردِّ على مثل هذا السؤال نسوق حدثًا فى غاية الغرابة، فقد حدث قبل سقوط الأندلس الأخير بنحو أربعين سنة حادث عجيب، وأعجب منه هذا التزامن الذى فيه، فقد فُتحت القسطنطينية فى سنة (857هـ/1453م) أى قبل سقوط الأندلس بأربعين عامًا، فكان غروب شمس الإسلام على أوروبا من ناحية المغرب يزامنه شروق جديد عليها من ناحية المشرق، واستبدل الله هؤلاء الذين باعوا، وأولئك الذين خانوا من ملوك غرناطة فى الأندلس بغيرهم من العثمانيين المجاهدين الفاتحين الأبرار، الذين فتحوا القسطنطينية وما بعدها، وقد بدأ الإسلام ينتشر فى شرق أوروبا انتشارًا أسرع وأوسعو مما كان عليه فى بلاد الأندلس وفرنسا، وللحديث بقية إن شاء الله.