سنوات طويلة مرت على موت الرمز النبيل أرنستو تشى جيفارا، بالتحديد خمسة وخمسون عاما على مقتل الرجل الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، ولا يزال.
لم يكن جيفارا مجرد ثائر وقف في وجه الاستعمار، بل كان ثائرا حقا، حيث مال الحق مال، ولم يكن طالب دنيا أبدا، فقد ترك كل شىء وصل إليه فى كوبا، وذهب ليدافع عن المظلمين في الكونجو بأفريقيا، ومنها إلى بوليفيا، وهناك ترصد له أهل الشر فأسروه وقتلوه، لكن ما الذي حدث بعد ذلك، لقد ذهبوا هم بجريمتهم إلى الهامش، وظل هو في متن التاريخ، ظل رمزا لا بديل له.
لم يكونوا هولاء القتلة نبلاء حتى في تعاملهم مع جثته، يمكن أن نتعرف عليهم وهم يتحلقون مثل ضباع وقحة حول أسير سقط بعدما ظل عامين كاملين لا يستطيعون إليه سبيلا حتى ألقوا القبض على صديقه المفكر الفرنسى الماركسى ريجيس دوبريه وبعدما نكلوا به وعذبوه اعترف بمكان جيفارا، وهنا انطلقوا خلفه فى البرية لا يريدون سوى قتله.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية دائما وراء كل الكواليس التى أدت إلى هذه النهاية الحزينة، بنفوذها فى أمريكا الجنوبية، حيث وقف رئيس الجمهورية البوليفية الجنرال رونيه بارينتوس قائلا، إنه واثق هذه المرة من القبض على جيفارا حيا أو ميتا، ولم يكن بارينتوس يعتمد فى عملية مطاردة واصطياد جيفارا على رجاله وحدهم، ولا على بعض رجال العصابات الذين تخلوا عن جيفارا وحاولوا الكشف عن مكانه، بل كان يعتمد على قوات متخصصة فى حرب العصابات والتصدى للثوار بوسائل علمية مدروسة.
دائما أفكر فى القلق الذى كان يسببه جيفارا فى نفوس المستبدين، كان يثير فى نفوسهم الفزع الذى كانوا يثيرونه فى أرواح شعوبهم، ويبدو أن السلطات كلها فى تلك الفترة كانت متشابهة، الجميع تخلى عن "الحلم" وراحوا يترقبون ما تفعله الكلاب الهائمة على وجوهها فى الغابات بحثا عن "الصيد الثمين" جيفارا، الذى تمنى أن يموت متكئا على شجرة لكنه لم يحدث.
مات جيفارا، وحتما مات قاتلوه، من أمر بالقتل ومن أمسك بالبندقية وأطلق الرصاص، لكن التاريخ هو المنصف الوحيد فى هذه القضية، فقد منح جيفارا حقه وحوله إلى رمز، ومسح أسماء القتلة من سجل الشرف، واحتفظ فقط بصفة كونهم قتلة "جيفارا"، لكم أن تتخيلوا أن من أطلق النار على جيفارا عاد إلى بيته وقص على زوجته ما فعله، حتما قالت له "اصمت ولا تخبر أحدا"، وتمنى أبناؤه من بعده ألا يعرف أحد وصمة العار التى ارتكبها أبوهم.