لا يخفى على أحد أننا نعيش "أزمة عناوين"، لدرجة باتت معها مصطلحات وعبارات لصيقة بالألسنة، تتردد بفهم أو بغير فهم، بمناسبة أو بدون، في ظاهرة امتد تأثيرها للرسائل العلمية والمشروعات البحثية في الكثير من الكليات النظرية والعملية على حد سواء، فسوف تجد الكثير من العناوين على طريقة "الإعلام بين الفرص والتحديات" أو "أساليب الكتابة الصحفية بين النظرية والتطبيق" أو " الأمن القومي إلى أين ؟ " أو "الحرب الروسية الأوكرانية.. ماذا بعد ؟ " أو حتى "محصول البطيخ بين الواقع والمأمول"!
عشرات الأبحاث والرسائل العملية لا تخرج عناوينها عن إطار واحد، حتى صرت أصدق في نظرية " العدد في الليمون"، فلم يعد أحد يهتم بمنطق التراكمية والإضافة العلمية، بل بات التشابه والنقل في أبشع صوره، لذلك تجد آلاف الأبحاث التي تنشر سنوياً دون هدف أو مغزى أو تطبيق عملي على أرض الواقع، أو تنعكس نتائجها على المجتمع، فلا تتوقف ماكينة الرسائل الجامعية فالكل يبحث عن لقب دون تحقيق إضافة أو قيمة حقيقية للعلم.
أخبرني أحد الأصدقاء بأن أستاذ إعلام مرموق في أحد الجامعات كان يشرف على 40 رسالة ماجستير ودكتوراه في العام الماضي! حتى صرت أضرب كفاً على كف، فكيف لهذا الأستاذ أن ينظم وقته بين أعباء التدريس في الجامعة والإشراف والمتابعة والتقييم لهذا الكم الهائل من الرسائل العلمية؟ وما الإضافة التي يمكن أن تقدمها كل هذه الأبحاث في صناعة يختلف واقعها كثيراً عن كل ما تأتي به النشرات العلمية أو الكتب والمحاضرات النمطية.
وفق بيانات وزارة التعليم العالي فإن معدلات النشر العلمي تضاعفت بمعدل 158% في الفترة من 2014، حتى 2022، فقد زاد عدد الأبحاث المنشورة من 15 ألف بحث سنوياً إلى 38 ألف بحث، بمعدل زيادة حوالي 23 ألف بحث في 8 سنوات، وهذا رقم ضخم جداً لو انعكس فعلياً على مستويات الابتكار والإنجاز في أي مجال لصارت مصر في وضع مختلف على مستوى البحث العلمي والتطور في المجالات النظرية أو التطبيقية، لكن الأمر للأسف لم يخرج عن كونه مجرد أرقام وإحصائيات، وليست أكثر من تحصيل حاصل، ونتائجها لن تؤثر سوى في الباحث ذاته، نتيجة اعتمادها على أفكار وفرضيات مستهلكة.
أتوقف كثيراً عند ما قدمه إمام اللغة العربية "سيبويه"، الذي وضع قواعد النحو الصرف، ويذكر اسمه كمؤسس حقيقي لهذا العلم إلى يوم يبعثون، بعدما جمع كل ما صنف في كتاب واحد وسماه "الكتاب"، فتقوم الدنيا وتقعد على كتاب سيبويه، لذلك ليست القضية بكم ما ننشر، بل قيمة وأهمية ما ننشر، وهنا أرى أن أخطر ما يمكن أن يصبح البحث العلمي مرتبط بقدرة الباحث على اتباع الخطوات الإجرائية وتلافي الشكليات التي يوجه بها المشرف أو الأستاذ، دون رؤية علمية أو إضافة فعلية نظرياً أو عملياً، حتى صار الجميع يحصلون على الرسائل ما داموا يتبعون الروتين المعتاد ولا يخرجون عن التعليمات، حتى باتت المتون والعناوين والقيمة العلمية فارغة من كل إضافة.
لست ضد الطموح العلمي لكل شخص يسعى للتعلم، وتطوير مهاراته وقدراته بأي وسيلة، لكن لا يجب أن يتحول البحث العلمي إلى وسيلة لممارسة الهوايات أو تمضية أوقات الفراغ، فما أحوج بلادنا النامية وأسواقنا الناشئة، إلى العلم والمعرفة للنهوض ومواكبة العالم واللحاق بثورته الرقمية الهائلة، لذلك يجب أن يكون التميز مسار إجباري، وطريق وحيد لكل تقدم ننشده، دون ارتباط الأمر بالكم والأعداد، خاصة أن الأرقام ستظل بلا قيمة ما لم تنعكس على تطور وازدهار المجتمع.