حالة من الزخم، باتت تحظى به القارة الإفريقية في اللحظة الراهنة، تزامنا مع انعقاد القمة الأمريكية - الإفريقية، التي تستضيفها واشنطن، في خضم مرحلة من الاستقطاب، تمثل جزء من إرهاصات مرحلة جديدة، من النظام العالمي، تتسم بالتعددية، سواء على مستوى القمة، مع صعود الصين وروسيا، أو في إطار الأقاليم الدولية، مع تصاعد أهمية الأقاليم التي عانت جراء التهميش والإهمال الدولي، وعلى رأسها إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، وهي المناطق التي انغمست، لعقود طويلة من الزمن، في دائرة مفرغة من الصراعات البينية تارة والأهلية تارة أخرى، مما ساهم في تفاقم أزماتها، بينما انصب اهتمام القوى الدولية المهيمنة على العالم على عمقها الأوروبي.
ويبدو تصاعد أهمية المناطق المهمشة، قد بدأ تدريجيا مع تنامي دور قوى دولية جديدة، على غرار الصين، سعت تدريجيا إلى تحويلها "فناء خلفي"، حتى يمكنها مجابهة "المعسكر"، الذي تقوده واشنطن، عبر تقديم نفسها باعتبارها مدافعا عن مصالحها، وهو الدور الذى تجلى في أبهى صوره مع بزوغ أزمة المناخ، حيث تبنت بكين موقفا داعما لـ"العالم النامي"، يقوم على تحميل واشنطن وحلفاءها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع البيئية، ناهيك عن تدشين المنتديات التي تهدف إلى تعزيز التعاون، على المستوى الثنائي والجمعي، مع تلك الأقاليم، مما ساهم في زيادة شعبيتها بصورة كبيرة في العديد من مناطق العالم على حساب واشنطن.
إلا أن الظروف الإقليمية التي هيمنت عليها حالة من عدم الاستقرار، وتفاقمت خلالها الصراعات، ناهيك عن دوران القوى الإقليمية الرئيسية، في فلك واشنطن، ساهمت إلى حد كبير في غياب قيادات إقليمية قادرة على توحيد المواقف، خاصة في إفريقيا، وهو ما أدى إلى تأخر وتيرة الاهتمام الدولي بالقارة السمراء، وبالتالي إطالة أمد الهيمنة الأحادية على النظام الدولي.
فلو نظرنا إلى السياسات الأمريكية، منذ نهاية الحرب الباردة، نجد أنها اعتمدت سياسة تقوم على تجريد القوى الإقليمية الرئيسة من أجزاء كبيرة من عمقها الجغرافي، مقابل أدوار محدودة النطاق لخدمة الأجندة الأمريكية، وهو ما يبدو، على سبيل المثال، مع تحييد الدور المصري في إفريقيا، مع منتصف التسعينات من القرن الماضي، مقابل احتفاظها بدور قيادى في منطقة الشرق الأوسط، بينما سعت الولايات المتحدة نحو تجريدها من هذا الدور لاحقا، عبر الاعتماد على قوى غير عربية، تزامنا مع حالة الفوضى التي ضربت المنطقة العربية إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي".
إلا أن الدبلوماسية المصرية، في عهد "الجمهورية الجديدة"، اتخذت نهجا استقلاليا، يقوم في الأساس على تنويع التحالفات، والعودة مجددا للتأثير في محيطها الدولي والإقليمي، عبر تجاوز الأدوار المرسومة لها من قبل القوى المهيمنة على العالم، ليس فقط بالعودة إلى عمقيها الإفريقي والعربي، واستعادة التأثير في مناطقها الجغرافية التقليدية، وإنما أيضا الانطلاق نحو خلق "فضاء" أوسع، على المستوى الاستراتيجي، في غرب أوروبا وشرقها، ناهيك عن توطيد علاقاتها بالقوى الآسيوية، ليفتح الدور المتسع للدولة المصرية على المستوى الدولي، مساحات جديدة من المناورة الدولية، والقيام بدور مؤثر فيما يتعلق بقضايا أمتها وإقليمها.
ويعد الاحتشاد الإفريقي والعربي الداعم لمصر، خلال قمة المناخ الاخيرة، والتي عقدت في شرم الشيخ، بمثابة رسالة للعالم، حول انطلاق مرحلة جديدة من القيادة الإقليمية، تعتمد مبدأ الشراكة والتعددية، بينما تبقى مصر "نقطة الاتصال"، بينهم وبين العالم، في ظل انفتاحها الدولي، ودبلوماسيتها القائمة على تجاوز الأقاليم الضيقة، نحو أفاق دولية أرحب، عبر الدفاع عن حقوقهم في الاستقرار والتنمية، بينما تقدم نفسها كنموذج رائد، يمكن الاحتذاء به في مناطقها، حال دعم دولها، من خلال مشروعاتها العملاقة من جانب، وقدرتها على استعادة الاستقرار في غضون سنوات معدودة تحولت فيها من دولة على حافة السقوط، في أعقاب مرحلة الفوضى إلى دولة قادرة على البناء والتأثير في محيطها الجغرافي بصورة كبيرة.
وهنا بات الزخم الدولي يتزايد بصورة كبيرة على تلك المناطق المهمشة، بعدما صار صوتها مسموعا، لتتحول إلى مراكز جديدة للاستقطاب، بين الولايات المتحدة والصين إلى جانب روسيا، ناهيك عن أوروبا، وهو ما يعني أنها ستكون فاعلة إلى حد كبير في رسم خريطة العالم، في مرحلة جديدة من تاريخه، بل ويمكنها ترجيح كفة على أخرى، في الميزان الدولي، خلال السنوات المقبلة، وهو ما يفسر إقدام الولايات المتحدة على التقارب مع القارة، خلال القمة المنعقدة حاليا في واشنطن، بعد أيام من قمة صينية عربية، تمثل انعكاسا ليس فقط لحالة التنافس بين القوى المرشحة لقيادة العالم في مرحلته الجديدة تتسم بالتعددية على مستوى القمة، وإنما تبدو تلك الحالة المتنوعة على مستوى الأقاليم في صورتها الجمعية، فبعدما كان الغرب (أمريكا وأوروبا الغربية) يستأثر بصناعة القرار الدولي وتعزيز الهيمنة، بات الدور الاكبر في المرحلة الراهنة لمناطق أخرى من العالم، وهو الأمر الذى ساهم في تعزيزه الانقسام الحالى في المعسكر الغربي، والذي تفاقم مع تواتر الأزمات وتمددها إلى مناطقهم الجغرافية، وخاصة مع اندلاع الأزمة الأوكرانية.
وهنا يمكننا القول بأن حالة التعددية، التي يتمخض عنها النظام الدولي في اللحظة الراهنة، باتت تحمل أوجه متنوعة، لا تقتصر على مستوى القيادة الدولية، وإنما باتت تحمل أبعادا أخرى، أبرزها على مستوى القوى الإقليمية المؤثرة والقادرة على خلق "فضاء استراتيجي" يتجاوز الأقاليم المحدودة، من جانب، وكذلك الأقاليم الفاعلة التي يمكنها المشاركة في تحديد وجهة النظام الدولي في مرحلته الجديدة.