ربما اعتمدت الدبلوماسية المصرية، منذ ميلاد "الجمهورية الجديدة"، على العديد من المسارات، ربما أبرزها تفعيل مبدأ الشراكة، وهو ما يبدو في العديد من الخطوات التي من شأنها زيادة التعاون، سواء مع دول المنطقة، أو تجاوز النقاط الاقليمية، نحو أفاق أوسع، عبر اقتحام مناطق تبتعد جغرافيا عنها، وهو ما يبدو في التوغل نحو أعماق آسيا وأطراف أوروبا، وهو ما ساهم في زيادة التأثير الذي باتت تحظى به الدولة المصرية، متجاوزا البعد الاقليمي الضيق، نحو التداخل في القضايا والازمات العالمية.
ولعل نجاح الدبلوماسية المصرية في تجاوز النطاق الإقليمي الضيق، ساهم بصورة كبيرة في تحولها إلى نقطة استقطاب دولية، وهو ما يبدو في حالة الزخم الذي باتت تحظى به، في ظل الزيارات التي شهدتها القاهرة في الآونة الأخيرة، من قبل كبار المسؤولين الدوليين، سواء من الولايات المتحدة أو الصين او روسيا أو كرواتيا أو إيطاليا وغيرهم أملا في دور مصري فاعل في مواجهة ما يمر به العالم من حالة استثنائية جراء الأزمات المتواترة، بالإضافة إلى الاحتفاء الكبير بالمسؤولين المصريين في زياراتهم لدول العالم، وهو ما يعكس تطلعا كبيرا للمزيد من التعاون مع مصر، لتحقيق المصالح المشتركة.
إلا أن المسارات التي انتهجتها الدبلوماسية المصرية، في التعامل مع محيطها الخارجي، لم تقتصر على توسيع نطاق التعاون والشراكة مع العالم الخارجي، وإنما تبنت مسارا آخر يقوم على "الاحتواء"، وهو المسار الذي تبدو أهميته في العديد من المناحي، سواء المرتبطة بالعلاقات بين مصر والعالم من جانب، أو بالمشهد الدولي بصورته الكلية من جانب آخر.
فلو نظرنا إلى العلاقات المصرية مع العالم الخارجي، في أعقاب ثورة 30 يونيو، نجد أن ثمة توترا ملحوظا مع مع العديد من القوى النافذة والمؤثرة في العالم، على غرار الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي، وحتى مع محيطها القاري، في إفريقيا، والذي عانى أساسا من عقود من التهميش في الأجندة المصرية، وهو ما بدا في تجميد عضوية مصر من الاتحاد الإفريقي، وبالتالي كانت الحاجة ملحة لاستعادة مكانة مصر، عبر "احتواء" الخلافات مع تلك المناطق، في سبيل استعادة مكانة مصر على الصعيدين الإقليمي والدولي.
واعتمدت دبلوماسية الاحتواء، العديد من السبل، ربما أبرزها تنويع التحالفات، عبر التقارب الملحوظ، مع القوى الجديدة التي باتت تنافس على قمة النظام الدولي، على غرار روسيا والصين، من جانب، مع العمل على القيام بدور من شأنه المساهمة في حل الأزمات التي تؤرق الدول التي اتخذت مواقفا مناوئة لها، من جانب آخر، مع التحرك القوي نحو عملية "بناء" شاملة في الداخل امتدت نحو المحيط الاقليمي، لتقليل الاعتماد على الدعم للقادم من الخارج، ولو على المدى المتوسط، من جانب ثالث.
وتعد الحرب على الإرهاب نموذجًا مهمًا، في هذا الإطار، حيث لعبت مصر دورا عالميا، لدحض التهديد الذي واجه العالم إبان تلك الحقبة، عبر نهجها الداخلي القائم على اعتماد أداة التوعوية جنبًا إلى جنب مع الأدوات الأمنية التقليدية، وهو النموذج الذي لاقى دعما من دول أوروبا، بل ولجأت بعضها إلى استنساخه، على غرار فرنسا، كما اقتحمت مناطق أوروبية تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة، على غرار اليونان وقبرص، عبر استكشاف مواردها من الغاز الطبيعي، لتنطلق نحو تحقيق قدرا من التنمية التي من شأنها تخفيف العبء على الاتحاد الأوروبي، والذي اعتمدت أثينا عليه لسنوات، منذ الازمة الاقتصادية العالمية التي أثرت عليها سلبا، وهو ما ساهم في تزايد الثقة الدولية في قدرة الدولة المصرية في التعامل مع أزمات العالم.
بينما على النطاق القاري، فاستطاعت الدولة المصرية تحقيق طفرات كبيرة في العلاقة مع الدول الإفريقية، عبر شراكات من شأنها زيادة مستوى التعاون مما ساهم في عودة القاهرة إلى عمقها الإفريقي المعهود، وهو ما بدا في الاحتشاد الكبير خلفها إبان قمة المناخ الاخيرة في شرم الشيخ، وهو ما يمثل نتيجة طبيعية لنهجها القائم على تعميم تجربتها فيما يتعلق بتحقيق التنمية المستدامة، وقدرتها على الحديث باسم دول القارة وغيرهم من دول العالم النامي، في مواجهة القوى الدولية الكبرى.
دبلوماسية الاحتواء امتدت كذلك في التعامل مع العديد من الصراعات الإقليمية، عبر توحيد المواقف والمساعي الدائمة نحو تعزيز المصالح المشتركة بين دول الإقليم خاصة في زمن الأزمات الدولية ذات النطاق الممتد زمنيا وجغرافيا في اللحظة الراهنة، وهو الامر الذي ساهم في تخفيف حدة المنافسة مع القوى الاقليمية الاخرى، في ظل إدراك عميق بأهمية التعددية القيادية، وعدم قدرة دولة واحدة مهما بلغت إمكاناتها على التعامل مع الأزمات الجديدة.
وهنا يصبح نهج "الاحتواء" بمثابة أحد أهم أجنحة الدبلوماسية المصرية في التعامل مع المحيط الدولي، سواء عبر مسارات أربعة، تعتمد في جزء منها على احتواء الخلافات، بحيث لا تصل إلى نقطة "اللا عودة"، وبالتالي إمكانية حلها في المستقبل على أرضية من المصالح المشتركة، بينما تحمل في جزء أخر قدرتها على احتواء الازمات التي تضرب العالم عبر تقديم تجربتها، في حين يبقى المسار الثالث على تهيئة البيئة الإقليمية نحو العمل المشترك في إطار متعدد، يسمح باستغلال كافة الامكانات التي تمتلكها القوى الاقليمية لتحقيق مصالح الدول وشعوبهم، بينما يبقى ثمة مسارا رابعا يعتمد في الأساس على تنويع التحالفات فلا تبقى الدولة رهينة التقلبات التي قد تشهدها العلاقات الدولية، وهو الامر الذي من شأنه إجبار كافة القوى الأخرى على مراجعة مواقفها تجاه مصر، في ظل ما تتمتع به من عمق جغرافي واستراتيجي يجعلها قوى مؤثرة في بناء حقبة جديدة من النظام العالمي.