تبدو محاولات الصين لتهدئة وتيرة الصراع على الساحة الدولية، طبقا لما أسميته في مقالي الأخير بمبدأ "إرساء الاستقرار"، لا تقتصر بأي حال من الأحوال على النزاعات الدولية بصورتها التقليدية، سواء الثنائية، على غرار نجاحها في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، أو على غرار المعسكرات، كمساعيها الحالية للدخول على خط الأزمة الأوكرانية، والتي تمثل إحياءً للصراع التاريخي بين روسيا والغرب، وإنما تحمل إطارا أشمل، في إطار إقليمي ودولى أوسع، وهو ما يبدو في العديد من المواقف التي تتبناها للدفاع عن أقاليم بعينها، منها إفريقيا والعديد من الدول النامية، سواء فيما يتعلق بقضية المناخ أو الاحتفاظ بحقوقهم فى تحقيق التنمية، بعد سنوات من التجريف جراء استنزاف مواردهم من قبل القوى الكبرى التي سيطرت على مقاليد العالم لعقود طويلة من الزمن.
الموقف الصيني، لتحويل الصراعات الدولية إلى توافق، عبر القيام بدور الوسيط، بات يحمل أبعادا أوسع، خاصة لا يقتصر على العلاقات القائمة بين الدول، وإنما يمتد رأب الصدع الناشئ بين الحضارات، والذي أرسته الولايات المتحدة، نظريا منذ التسعينات من القرن الماضى، عبر نظرية صموئيل هنتنجتون، أو عمليا، بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي لم تقتصر تداعياتها على المعارك التي شهدها العالم الإسلامي، سواء في العراق أو أفغانستان، وإنما حملت أثارا عميقة داخل المجتمعات الغربية نفسها، وهو ما بدا في هيمنة ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، جراء حملات إعلامية ضخمة، خلال تلك الحقبة، استهدفت الإسلام والمسلمين، دفعت إلى التحرش بهم، والإساءة إليهم، وهو ما لم تنجح الجهود المبذولة في احتوائها، مع ظهور بعض المتطرفين الذين يتعمدون الإساءة للدين الإسلامي في العديد من العواصم الغربية، بينما شنت جماعات الإرهاب هجمات استهدفت تلك المجتمعات على الجانب الأخر.
الرؤية الصينية، لتحويل العلاقة بين الحضارات من الصراع إلى الحوار، تجلت في مبادرة أطلقتها بكين تحت مسمى "الحضارات العالمية"، والتي تعتمد نهجا يهدف إلى التقريب بين الحضارتين العربية والصينية، في انعكاس صريح للأولوية التي تحملها أجندة بكين لتعميق دورها في المنطقة، وهو ما بدا في العديد من الخطوات المتواترة، ربما أبرزها الحرص الشديد على توسيع نطاق علاقاتها مع الدول العربية فرديا وجماعيا، ناهيك عن التقارب الملموس الذي شهدته العلاقة بين الصين وجامعة الدول العربية، والتي شهدت زيارات متواترة لمسؤولي بكين، إلى مقرها، وآخرهم وزير الثقافة والسياحة، هيو هيبنج، وذلك للتأكيد على ضرورة التبادل الثقافي بين الجانبين في المرحلة المقبلة، من أجل توطيد العلاقة ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي، وإنما اقتحام الأخر ثقافيا لتحقيق تقارب فكرى متزامن مع خطوات السياسة.
رؤية الصين لتحقيق ما يمكننا تسميته بـ"التوافق بين الحضارات" ربما يحمل أبعادا أوسع في المستقبل، في ظل قدرتها الكبيرة على القيام، بدور يقوم على الوساطة بين الحضارات "المتصارعة"، وهو ما يتوافق إلى حد كبير مع السياسة التي تتبناها بكين في إدارة مختلف الصراعات، والتي تسعى إلى اعتماد دور "الوسيط" لتحقيق المزيد من الصعود على الساحة الدولية ومزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي.
والملاحظ للنهج الصيني، في السيطرة على زمام المبادرة للقيام بدور الوساطة، يجد أنها تعتمد أسلوبا يقوم في الأساس على الاستحواذ على ثقة أحد أطراف الصراع، ليكون منطلقا نحو قبول الأطراف الأخرى بدورها، وهو ما يبدو في الأزمة الأوكرانية، حيث تعتمد بصورة كبيرة على علاقتها القوية بموسكو، بالإضافة إلى حالة التراجع الكبير في الثقة الدولية بالولايات المتحدة، مما يجبر الطرف الأوروبي على التفاوض مع بكين، والقبول، ولو على مضض، لدورها، وهو ما تجلت بوادره في الزيارة التي أجرتها رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير أورسولا والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين، في مؤشر لتراجع، ولو جزئي في الموقف الأوروبي الرافض تجاه الدور الصيني، وهو الأمر الذي ينطبق كذلك على التقارب "الحضاري" مع العرب، باعتبارهم "بوتقة" الهوية الإسلامية واللغوية، والتي تمثل أحد أهم أطراف الصراع الذي أرسته واشنطن منذ التسعينات.
ولعل القبول العربي الكبير للصين، مؤهلا مهما لها للقيام بمثل هذا الدور، ناهيك عن جذور بكين الحضارية، والتي تحمل في طياتها ثقافة تبدو محايدة، بين الغرب المسيحي والحضارة الإسلامية في الشرق، مما يساهم في حالة أكبر من الاندماج، بين أكبر قدر من الثقافات، تدفع إلى التعددية، والتي تمثل أحد أركان الرؤية الصينية للنظام العالمي الجديد، الذي يناهض الحالة الأحادية، ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي، وإنما يمتد إلى الحالة الثقافية، في ظل رهانها على النجاح في توجيه بوصلة العالم نحو قبول الاختلاف والتوجه نحو التضامن والتكامل في مختلف مجالات الحياة.
وهنا يمكننا القول بأن تحويل الحضارات من حالتها الصراعية، إلى الحوار، يمثل بعدا مهما من أبعاد الاستراتيجية الصينية، في إطار التنافس مع الولايات المتحدة، في ظل تقديم نفسها، على الساحة الدولية في دور الوسيط، بعيدا عن الانغماس المباشر في أية صراعات، ومحاولة تبني مواقف معتدلة تجاه الأزمات الراهنة التي يشهدها العالم في اللحظة الراهنة.