طرحت في المقال السابق بعض الأمثلة على الادعاءات التي تستهدف الحضارة والتاريخ المصريين، غير أن الطريقة المطلوبة لمواجهة مثل هذه الادعاءات يجب أن تبدأ بعقول أبنائنا فهم الذين سوف يواجهون مثل هذه الهجمات ومن الضروري أن يتسلحوا أمامها بكل ما هو حقيقي وعلمي.
فالعلاقة التي تقوم بين أبنائنا وهويتهم تنبني على المدرسة وما يتعلمونه فيها، غير أن ما يتعلمونه يبدو غير كاف، فالمقررات الدراسية التي تتعامل مع تلك الهوية تعتمد في الأساس على تلقين الطلاب بعض المعلومات عن التاريخ المصري، معلومات جافة سطحية تهتم بالأحداث التاريخية، وهو أمر مهم بالتأكيد أن يعرف أبناؤنا الأسر الحاكمة وملوك مصر وإنجازاتهم، غير أن التاريخ السياسي سيكون بالنسبة إليهم مجرد أرقام وتواريخ لا يرتبطون بها.
لذلك فإن أولى خطوات البناء الحقيقي للهوية هو أن تكون الحضارة المصرية بعناصرها كافة عناصر تدريسية بالإضافة إلى التاريخ السياسي أو بديلا عنه في بعض الأحيان، وهو ما يمكن أن يتم عن طريق مقرر تعليمي يتناول الحضارة المصرية، في كل نواحيها المتعلقة بالعلوم والآداب والزراعة وطريقة الحياة واللغة وغيرها مما يقرب شكل الحياة المصرية والإبداع المصري القديم إلى الأذهان، وربما يمكن الاعتماد على علم المصريات في التعامل مع حقائق الحضارة المصرية بالصورة التي تجعل من الهدف الرئيس وهو أن يتعايش أبناؤنا مع إنجازات حضارتهم، ويتعرفون عن قرب إلى الإبداع المصري الحقيقي.
ويمكن أن يتدرج ذلك في سنوات التعليم المتتابعة من السهل إلى الأكثر تعقيدا في سنوات الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية، حيث يمتد الأمر إلى أبعد من مجرد تعلم رمزين أو ثلاثة إلى إمكانية تعلم القراءة والكتابة ليتواصل ولو جزئيا مع النصوص على جدران المعابد والمسلات.
وبالطبع لا يجب أن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يجب علينا الإفادة من المعلومات عن الحياة المصرية ما يمكن أن يعكف عليه خبراء التربية والتعليم لانتقاء ما يتوافق مع قيم المجتمع المعاصر حتى يتخرج الطالب في المرحلة الثانوية وهو يمتلك فكرة عامة عن المجتمع المصري، حياته وتكوينه الأسري وعلاقته بالنيل وبالأرض، عن علومه ومعارفه وآدابه ونصوصه، عن فنونه وعمارته وموسيقاه وقيمه المجتمعية.
كما أنه من الممكن أن يتطور الأمر ليدخل في إطار التخصص، فيدرس طلاب الجامعات كل بحسب تخصصه الإنجاز المصري في هذا التخصص، ليدرس طالب الطب مثلا الطب المصري القديم وإنجازاته وأدواته التي استعارها منه العالم الحديث، بالخامات والمقاييس ذاتها، والأجهزة التعويضية التي اخترعها المصريون والجراحات التي ابتكروها، ولدينا أمثلة واضحة على ذلك في متحف الحضارة، كما يمكن أن يدرس طالب الهندسة المعمار المصري كما يظهر في المعابد والأهرامات والمقابر، كما يدرس الأدوات التي اخترعها المصريون، ويدرس طلاب الفنون التشكيلية النحت المصري وطرق تركيب الألوان بالطريقة التي تجعلها ثابتة على مدار الزمن، كما يدرس طالب الزراعة ابتكارات المصري القديم في الزراعة والري وكيف علم المصريون العالم طرق الزراعة والاستنبات وغيرها من جوانب هذا العلم الحيوي.
ويمكن أن يدرس طلاب الآداب النصوص المصرية الخالدة مثل كتاب الموتى وشكاوى الفلاح الفصيح، وهكذا في التخصصات كافة، بما ينشئ خريجا في كل تخصص لديه علم بل معاينة للإنجازات المصرية القديمة التي أسهمت في تطور البشرية، ويكون على دراية بمكونات هويته التي آلت إليه بعد كل هذا التاريخ الحافل.
إن مقررا مثل هذا سيكون حريا به أن يجعل أبناءنا يعيشون جذورهم، يستلهمون اختراعات أجدادهم وإبداعاتهم وابتكاراتهم التي خلقوا منها حضارة عظيمة، ليرتبطوا بها ويؤسسوا عليها، والأهم من ذلك أن سيعلمون يقينا أنهم قادرين على تكرار مثل هذا الإنجاز، وبالتالي سيكونون هم الأشد حرصا على مواجهة أي هجمة عليه