انتخابات رئاسية وشيكة، تبدو على أعتابها الولايات المتحدة، تحمل في طياتها، إلى جانب صراعات متوقعة على أساس حزبي، باتت تتجاوز الأطر الديمقراطية المتعارف عليها، في ظل معارك تكسير العظام، والتي وصلت إلى ذروتها مع التشكيك في نزاهة العملية برمتها على غرار الانتخابات السابقة، والتي اعتلى بها الرئيس جو بايدن "عرش" البيت الأبيض في 2020، كل ذلك يحمل إرهاصات نظام دولي جديد، يحتاج إلى رؤى جديدة، بعيدا عن تلك الأفكار النمطية التي هيمنت على السياسة الأمريكية في زمن الأحادية القطبية، والتي بدأت منذ أكثر من 3 عقود من الزمان، حتى يمكنها مجاراة الواقع الدولي الجديد، مع صعود قوى دولية جديدة باتت تزاحم واشنطن على قمة النظام العالمي.
ولعل أهم ما نجحت الولايات المتحدة في ترويجه، فيما يتعلق بعمليتها الديمقراطية، طيلة عقود طويلة من الزمن، يتجسد في قدرتها على إدارة عملية تداول السلطة بسلاسة، خلال انتخابات منتظمة، تتغير خلالها وجوه الرؤساء، كل ثمانية أعوام، كحد أقصى، عبر دعاية صاخبة، توارت وراءها حقائق عدة، تتجسد ليس فقط في تطابق التوجهات والأهداف، حتى وإن اختلفت السياسات المؤدية إليها، وإنما أيضا تجلت في تشابه الأوجه الحاكمة، إلى حد كبير، وإن اختلفت المواقع، مما يعكس انحصار السلطة في معقل الديمقراطية في العالم قبضة حفنة معدودة من البشر، سواء في مقعد الرئيس أو المقاعد الأمامية داخل أروقة الإدارات المتعاقبة، وهو ما يبدو في صعود الرئيس بايدن إلى منصب الرئيس في الفترة الحالية، بعدما قضى 8 سنوات في مقعد نائب الرئيس.
والمتابع لعملية تداول السلطة في الولايات المتحدة، منذ انطلاق حقبة الهيمنة الأحادية، أو قبلها بقليل، يجد أن نموذج بايدن، ليس جديدا تماما، فالرئيس الأسبق جورج بوش "الأب"، تولى السلطة لـ4 سنوات بعدما كان نائبا لسلفه رونالد ريجان لمدة 8 سنوات، بينما تولى ابنه السلطة لفترتين، بعد خروج والده من البيت الأبيض بـ8 سنوات، تولى خلالها بيل كلينتون مقاليد الحكم في بلاد "العم سام" اختتم بها الألفية الثانية، ليترك زوجته هيلارى، بعد ذلك بـ8 سنوات أخرى، في منصب وزيرة الخارجية، لمدة 4 سنوات، خلال الولاية الأولى لباراك أوباما، ثم تترك المنصب طواعية، استعدادا لخوض المنافسة على مقعد الرئيس في 2016، لتخسر أمام دونالد ترامب.
وهنا نجد أنه ثمة تشابها كبيرا في الوجوه الحاكمة للولايات المتحدة، خلال 40 عاماً، ليس فقط على مستوى التوجهات والأفكار، وإنما تجاوزت ذلك إلى حد "التوريث"، وإن كان مصبوغا بـ"نكهة ديمقراطية، فعائلة بوش، على سبيل المثال تواجدت بالبيت الأبيض، لـ20 عاما، خلال 4 عقود كاملة، بينما هيمن آل كلينتون لـ12 عاما، بينما تواجد بايدن لـ12 عاما على الأقل حتى الآن، ومرشحة للوصول إلى 16 عاما، حال نجاحه في الانتخابات المقبلة، بينما يبقى الرئيس السابق دونالد ترامب بمثابة الاستثناء الوحيد، سواء من حيث الانتماء العائلى أو التوجهات السياسية، أو حتى الميول الحزبية، والتي بدت مختلفة إلى حد كبير، إذا ما قورنت حتى بنظرائه من المنتمين إلى الحزب الجمهوري، حيث حصل على 4 سنوات فقط في منصب الرئيس ولم يتولى قبلها أي مقاعد في الإدارات السابقة، ليصبح الوجه الجديد تماما، على السياسة الأمريكية.
انحسار السلطة في الولايات المتحدة في قبضة عدد محدود من الساسة، أو بالأحرى العائلات، يعكس العديد من الحقائق، ربما أبرزها تأثير الدعاية السياسية، وقدرتها على طمس العديد من الحقائق، ربما أبرزها قضية "التغيير"، والتي طالما روجت لها واشنطن باعتبارها السبيل الوحيد للإصلاح في العديد من دول العالم، بل وكانت الوقود الذي أشعلت من أجله الحروب، خاصة وأن التغيير في الداخل الأمريكي خلال 4 عقود من الزمان، كان محدودا للغاية، بينما تبقى الحقيقة الأهم تتجسد في الحالة "الدعائية" التي يتسم بها المفهوم، عبر صورة تبدو براقة للانتخابات وتداول السلطة، بينما الواقع يبدو مختلفا تماما، في ظل انتقال السلطة في نفس دائرة الأشخاص، وربما الأسرة الواحدة في الكثير من الأحيان.
الحالة "الدعائية" التي اتسمت بها السياسات الأمريكية، لرسم صورة "الديمقراطية" تكشفت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مع خروج ترامب من البيت الأبيض، ليس فقط فيما يتعلق بالاتهامات غير المسبوقة بالتزوير، وإنما أيضا في مشاهد جديدة، على غرار اقتحام الكونجرس من قبل مؤيديه، وحالة العنف التي سادت الشارع، وهي الحالة التي لا تترجم انتماءً حزبياً أو ولاءً لرئيس بعينه، بقدر ما تحمل، من وجهة نظري، رفضاً للعودة إلى تلك الدائرة التي لم تخرج عنها السلطة لعقود طويلة من الزمن، والتي يمثلها في تلك اللحظة عودة بايدن إلى القصر، ولكن هذه المرة في منصب الرئيس.
وهنا يمكننا القول بأن مفاهيم الديمقراطية وتداول السلطة التي روجت لها واشنطن، لعقود طويلة من الزمن، ربما لم تتجاوز حالة من "الهلامية"، في ظل سيطرة "أهل الثقة" على دوائر السلطة في الإدارات المتعاقبة، بين منصب الرئيس والمناصب الكبرى، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في الدوران في نفس الفلك لعقود طويلة، بينما ساعدت الظروف الدولية، وتراجع القوى التي يمكنها منافسة الولايات المتحدة، على تعزيز تلك الصورة، وهو الأمر الذي تغير مؤخرا، تزامنا مع تغيير ملموس في الحقبة الدولية الراهنة، جراء صعود قوى جديدة، نجحت في تحقيق إنجازات ملموسة، رغم وصمها بالديكتاتورية، على غرار الصين، مما دفع المواطن الأمريكي إلى مراجعة العديد من الأفكار التي يتم تصديرها له، سواء عن الحالة الأمريكية، أو تقييم الأوضاع بالنسبة للدول الأخرى، التي طالما دأبت أمريكا وحلفائها على انتقادها أحيانا بل وحصارها في أحيان أخرى.