هنالك مؤشرات فى غاية الأهمية والإيجابية لتلك الزيارة التى بدأها الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى، الثلاثاء الماضى، فى إطار جولة خارجية تشمل "أنجولا، وزامبيا، وموزمبيق"، حيث تتضمن المشاركة فى أعمال القمة الثانية والعشرين للسوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقى (كوميسا) التى تستضيفها العاصمة الزامبية "لوساكا"، وبحسب المستشار أحمد فهمى المتحدث باسم الرئاسة المصرية، فإن جولة السيسى فى منطقة الجنوب الأفريقى تأتى فى إطار "حرص مصر على تكثيف التواصل والتنسيق مع أشقائها الأفارقة"، ومواصلة تعزيز علاقاتها مع دول القارة فى مختلف المجالات، لاسيما عن طريق تدعيم التعاون المتبادل على الأصعدة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، إلى جانب الأولوية المتقدمة التى تحظى بها القضايا الأفريقية فى السياسة الخارجية المصرية.
وتركز الجولة الأفريقية - التى وصفها مراقبون - بأنها ذات أهمية جيوسياسية للقاهرة، وتفتح أفقا جديدا للدبلوماسية المصرية فى جنوب القارة على تعزيز أوجه التعاون الثنائى وكيفية التعامل مع مشاغل القارة الأفريقية، فضلا عن مناقشة مستجدات القضايا والملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وفى هذا الصدد كثفت مصر من نشاطها الدبلوماسى خلال السنوات العشر الأخيرة فى القارة الأفريقية، إذ احتلت الزيارات لدول أفريقية أكثر من 30 فى المائة من مجمل الزيارات الرئاسية خلال السنوات الأخيرة، بحسب تقرير رسمى لهيئة الاستعلامات المصرية.
وكانت آخر الزيارات الثنائية التى أجراها السيسى لدولة أفريقية، فى مايو 2021، إذ زار دولة جيبوتى، وهى الزيارة التى وصفتها الرئاسة المصرية فى حينها بـ "التاريخية"، لكونها الأولى لرئيس مصرى، وخلال العام الماضى شارك الرئيس السيسى فى عدد من القمم المعنية بأفريقيا، من بينها القمة الأميركية - الأفريقية التى استضافتها العاصمة؛ واشنطن، فى منتصف ديسمبر الماضى، كما شارك فى الدورة السادسة لقمة المشاركة بين الاتحاد الأفريقى والاتحاد الأوروبى، التى عقدت فى فبراير 2022 فى بروكسل.
وظنى أن الجولة الحالية للرئيس السيسى تأتى فى وقتها المناسب، لأنها تستهدف مجموعة من الدول التى تقع فى جنوب القارة، وهى منطقة "كانت تحظى بأولوية أقل فى السياسة الخارجية المصرية مقارنة بمناطق مثل دول حوض النيل والشمال الأفريقى التى كانت تحظى بتركيز أكبر بالنظر إلى المصالح الاستراتيجية لمصر فى تلك المناطق".
معروف أن مصر بحكم الجغرافيا والتاريخ تحتل مكانا وسطا سواء من حيث الموضع أو الموقع، وسطا بين خطوط الطول والعرض وبين القارات والمحيطات حتى بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات وليس معنى هذا أننا أمة نصف، ولكن بمعنى أمة وسط متعددة الجوانب والأبعاد والآفاق والثقافات، مما يثرى الشخصية القومية والتاريخية ويبرز عبقرية المكان، فالتربة المصرية كبيئتها منقولة من منابع النيل فى قلب أفريقيا إلى عتبة البحر المتوسط وتداخلت فيها خطوط العرض المتباعدة والمتفاوتة وهى تمثل فى النهاية حالة نادرة من تراكب البيئات.
فضلا عن ذلك كله فإن الإيراد المائى لمصر: يأتى معظمه من نهر النيل وهكذا أخذت مصر مائية الموسميات دون أن تأخذ منها مناخها القاسى أو رطوبتها، كما تتميز مصر بالمحاصيل الزراعية المعتدلة، حيث تجمع بين محاصيل البحر المتوسط والمدارية، حيث يمكن القول إن زراعتنا الشتوية تجعلنا فى نطاق البحر المتوسط، بينما الصيفية تنقلنا إلى النطاق الموسمى، كما أمناخ مصر: يلخصه المقريزي: مصر متوسطة الدنيا سلمت من حر الأقاليم الأول والثانى ومن برد الأقاليم السادس والسابع ووقعت فى الإقليم الثالث، فطاب هواؤها وضعف حرها وخف بردها وسلم أهلها من مشاتى الأهواز ومصايف عمان وصواعق تهامة ودماميل الجزيرة العربية وجرب اليمن وطواعين الشام وحمى خبير.
ومن هنا تأتى زيارة السيسى الحالية غاية فى الأهمية للتأكيد على تلك القضايا السابقة، حيث تتضمن جانبا بروتوكوليا يشمل تسليم مصر رئاسة الدورة الجديدة لتجمع "كوميسا" إلى زامبيا (دولة المقر)، لكنها فى الوقت ذاته تمثل أيضا استكمالا لدور مصر فى دعم التكامل الاقتصادى مع دول القارة، باتجاه تنفيذ اتفاق التجارة الحرة الأفريقية، وتأتى أهمية الزيارات الرئاسية الحالية إلى أنها تمثل "رسالة على الحرص المصرى بالتواصل على أعلى المستويات مع الدول الأفريقية"، كما أنها تسهم فى تذليل أى عقبات أمام التجارة والاستثمار فورا، ولا سيما زامبيا وأنجولا - تمتلك فرصا واعدة للعمل مع مصر اقتصاديا واستثماريا، ليس فقط على المستوى الرسمى، ولكن أيضا بالنسبة للشركات ومجتمع الأعمال.
معروف أن مصر فى إطار دورها التاريخى، تراست الاتحاد الأفريقى عام 2019، وأطلقت خلال تلك الفترة مجموعة من مبادرات التعاون مع دول القارة، منها مبادرة "إسكات البنادق" للحد من النزاعات المسلحة فى أفريقيا، كما دشنت منتدى أسوان للسلام والتنـمية، ليكون منصة أفريقية لمناقشة مختلف التهديدات والتحديات التى تواجه القارة، وتشارك مصر فى مجموعة من المشروعات القارية الكبرى، وبخاصة فى مجال النقل والربط بين طرفى القارة الشمالى والجنوبى عن طريق مشروع الممر الملاحى النهرى بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط من خلال مجرى نهر النيل ليكون حجر الأساس للسوق الأفريقية المشتركة، إضافة إلى الطريق البرى "القاهرة - كيب تاون".
وتأتى الجولة الحالية للرئيس السيسى استكمالا للجولات الأفريقية متعددة المحطات، التى تأثرت بسبب جائحة فيروس كورنا، وأن الدول الثلاث التى تتضمنها الزيارة الحالية تتمتع بإمكانات اقتصادية واعدة، لا سيما فى مجال التعدين وإنتاج النفط، وهنا لا بد للمراقب أن يدرك اتفاقه مع الرأى السابق حول الأهمية "الجيوسياسية" للجولة، التى تشير إلى إنها "تفتح أفقا جديدا أمام تحرك الدبلوماسية المصرية فى جنوب القارة"، كما يمكن اعتبار تنشيط دور مصر فى "كوميسا" التى تعد أكبر تجمع تجارى اقتصادى فى نصف العالم الجنوبى، ركيزة مهمة لتعزيز الحضور المصرى فى القارة، وتوسيعا لسياسة طرق الأبواب الأفريقية التى نرى أنها "أثبتت نجاحا واضحا خلال السنوات الماضية، وساهمت فى تعزيز الدور المصرى، ليس فقط فى المشاركة فى الفعاليات الأفريقية، بل فى وضع أجندة العمل الأفريقى، وربطه بأجندة العمل الدولية".
وتسعى مصر إلى تأكيد حضورها القارى عبر تبنى مجموعة من برامج التعاون المشترك والتبادل التجارى والثقافى، فضلا عن التنسيق السياسى والأمنى مع دول القارة، وركزت مصر على الحديث باسم أفريقيا فى عدد من المحافل الدولية، وكان من بينها القمة العالمية للمناخ (Cop 27)، التى استضافتها مدينة شرم الشيخ العام الماضى، واستضافت مصر الشهر الماضى الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الأفريقى للتنمية، بمشاركة محافظى البنوك المركزية فى 81 دولة من الدول الأعضاء الإقليمية وغير الإقليمية ضمن مجموعة بنك التنمية الأفريقي.
والتاريخ بالتارخ يذكر، فقد لعبت مصر دورا تاريخيا على مستوى القارة الإفريقية من أجل تحرير الدول الأفريقية من الاستعمار وتوحيد جهودها لتحقيق نهضة شاملة فى مختلف المجالات من خلال تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، حيث كانت مصر إحدى الدول المؤسسة للمنظمة عام 1963، كما استمرت مصر فى لعب هذا الدور المهم منذ الخمسينيات وحتى الآن، وهو الدور الذى تعزز جليا على مدى السنوات الثمانى الماضية، نعم هو دور تاريخى وانتماء أصيل ومصالح استراتيجية مشتركة وإيمان راسخ بأهمية التكامل الإقليمى والقارى، وحرصا على العمل على النهوض بالقارة وتحقيق طموحات شعوبها ودولها مع الدفاع عن حقوقها، تلك هى مسيرة مصر الممتدة فى قارتها الإفريقية والتى انتقلت لآفاق أوسع وأرحب وامتدت لمساحات تعاون أكثر عمقا وديناميكية منذ تولى الرئيس السيسى رئاسة مصر.
ونمت العلاقات المصرية الأفريقية بشكل غير مسبوق بعد عام 2014، أى مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسى وفوزه بالانتخابات، الذى كانت رؤيته ثاقبة تجاه هذه العلاقات والخسائر التى تكبدتها "القاهرة" جراء سنوات التهميش للقارة لدى صانع القرار المصرى، وبالتالى كان أمامه هم دبلوماسى كبير يتمثل فى إعادة تأسيس العلاقات المصرية - الأفريقية وفق منظور جديد يطوى صفحة الماضى ويستعيد ثقة الدول الأفريقية فى مصر، وهذا رغم الانشغال المصرى بكثير من القضايا الداخلية المعقدة.
المسألة ليست كما كانت من قبل، ليست علاقة قائمة على فكرة أن مصر فى برج عالٍ والدول الأفريقية هى التى تسعى للعلاقات معها، انتهت هذه النظرة والمرحلة، وصاغ الرئيس السيسى مرحلة جديدة تقوم على الندية واليقين بقيمة ومكانة دول القارة، واليقين كذلك بأن قوة مصر من قوة الدول الأفريقية، وهى القناعة التى وصلت فى المقابل للأخيرة، بمعنى أن قوة مصر قوة للقارة السمراء ككل ولشعوبها.
كانت العلاقات المصرية - الأفريقية كالمركب الغارق الذى ينبغى أن ينقذ من عليه وهم يكادون يلفظون أنفاسهم الأخيرة، لكن أنقذوا بفعل سياسة خارجية رشيدة ودبلوماسية رئاسية مصرية بصيرة وعاقلة تمت ترجمتها فى عديد من المبادرات والخطوات العملية كمبادرة إسكات البنادق، ومشروعات بناء السدود، وحفر الآبار فى عدد من الدول الأفريقية، وصولا إلى دفاع "القاهرة" كذلك عن القارة فى مواجهة تأثيرات الأزمة الروسية - الأوكرانية، خصوصاً الدول التى تعانى على صعيدى الأمن الغذائى والأمن المائى، مؤشرات كلها تؤكد أن "القاهرة" دائماً حاضرة للدفاع عن هموم القارة.
ويجمع الخبراء على أنه إلى جانب القضايا التقليدية مثل أزمة ليبيا والصومال والأوضاع فى السودان، فإن القاهرة تواصل دائما عرض رؤاها بشأن تنمية القارة، وكذلك السعى الدائم لدعم القارة فى مواجهة الأزمة "الروسية - الأوكرانية" - كما بدا ذلك فى لغة خطاب السيسى مع الرئيس الأنجولى - فى ظل ما أفرزته من تداعيات سلبية وخطيرة على القارة، سبق أن حذر منها الرئيس السيسى مرارا، ثم يأتى ملف الحفاظ على السلم والأمن الأفريقى كإحدى أبرز القضايا التى تعمل عليها مصر، خاصة فى هذا الوقت الذى يتكالب فيه الغرب وأمريكا حتى الصين على أفريقيا فى محاولة السيطرة على ثرواتها الكثيرة
ومصر بطبيعة الحال علاقاتها بالاتحاد الأفريقى طيبة وجيدة، وهى علاقات مهمة، خصوصا أن مصر من الدول الرئيسية فى تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية من قبل، والقاهرة لديها استراتيجية للحركة فى أفريقيا تعتمد على ثوابت قانونية وتاريخية والمصالح المشتركة للجميع، وليس لطرف على حساب الآخر، كما أن مصر تقدم نموذجا لما يعرف باسم التنمية الحديثة أو التنمية المعاصرة أو التنمية المستدامة للدول الأفريقية، وهذا يشير بعمق إلى ما تقوم به القاهرة تجاه هذه الدول، وبالتالى فإن تنمية الدول الأفريقية لا تزال إحدى أهم أذرع الحركة المصرية فى القارة السمراء، بما فى ذلك بناء السدود، وهنا لا بد من الإشارة إلى تجربة سد جوليوس نيريرى فى تنزانيا، وهذا يؤكد أن الدولة المصرية لا تتأخر عن الأشقاء.
وتخدم مصر على ما سبق من خلال الدبلوماسية الرئاسية التى يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسى، للدفاع عن الثوابت المصرية أو عن حقوق مصر فى إطار القانون الدولى العام، كما أن الرئيس أكد كذلك على التعامل مع عدد من القضايا، منها مكافحة التصحر، وأن تقوم مصر بتقديم الخبرات اللازمة للتعامل مع هذا الأمر، وربما هذا هو ما يطمئن إلى نتائج أكثر إيجابية فى نهاية زيارة الرئيس الحالية، وذلك لأن مصر مصر دائما معنية بمسألة حفظ الاستقرار والسلم والأمن، خصوصا فى الدول الأفريقية، وبصفة عامة فإن فكرة السلام والاستقرار مسيطرة تاريخيا على العقيدة الدبلوماسية المصرية.