محمد حجي.. رحيل رسام الملاحم الصحفية المبهرة

هو فنان تشكيلي هادئ، يشتغل في صمت بعيدا عن الأنظار، متنوع الإنتاج، تجاوز محاكاة الحرفية للمظاهر الطبيعية من التعبير، وجمع ما بين تشكيل الفن بطريقة رمزية سلسلة، والرسم بالألوان الزيتية والمائية وبأقلام الحبر سواء على الورق أو القماش، واستخدم ذكاءه الفني ليصبح له اسم بين الفنانين التشكيليين على المستوى العربي في الرسم الصحفي بالغ التعبير عن هموم ومشاكل المواطن العربي في "فلسطين، ليبيا، تونس" وحتى سويسرا، وذلك من خلال تعامله الراقي مع الألوان وأدوات التي كان يستخدما بحساسية مرهفة، رغم خشونة خطوطه وحديها، إنه الفنان التشكيلي محمد حجي الذي رحل عن عالمنا قبل أيام. غيب الموت قبل ستة أيام الرسام المصري محمد حجي، أحد أعمدة فن الرسوم الصحافية في مصر منذ ستينيات القرن الماضي، والذي آمن خلال مسيرته بأن الفن ممارسة تراوح بين الحرفة والإبداع، وهو أمر لا يقلل من قيمة الفن، ولطالما أثارت انتباهه رسوم المخطوطات القديمة مثل "مقامات" الحريري للواسطي، ورسوم "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة"، والتي لم يقتصر تأثيرها في المنطقة العربية فقط، بل تأثر بها الفنانون الغربيون أيضاً، فهي رسوم تختلط فيها الأزمنة والأماكن ويخيم عليها خيال فريد ومثير للانتباه. تميزت تجربة الفنان محمد حجي التصويرية بالتنوع على المستوى الأسلوبي، فقد كان كثير الانتقال والخروج عن الأنماط والقواعد السائدة، واستطاع عبر مسيرته أن يشكل تجربته البصرية التي اتسمت بملامح خاصة لا تخطئها العين، وكان اهتمامه بجماليات الحروف العربية أحد أهم المسارات التي لجأ إليها الفنان الراحل لتأكيد هويته وانتمائه، وقد آثر حجي في أعماله الحروفية تلك أن يعيد بناء الخط العربي في صيغ جديدة ومختلفة، مراوحا بين التزام القواعد وتجاوزها، غير أنه ظل محافظاً في كل الأحوال على أسلوبه المعتاد في الاهتمام بتأكيد الكتلة، فبدت حروفه أشبه بصروح بنائية محلقة في فراغ المساحات اللونية. عندما تحلق في أعمال حجي سوف تصيبك متعة حاصة عبر أجوائها الخيالية التي تتشارك خلالها كل الكائنات في فضاء واحد مشترك، وهو في هذه الصياغات الخيالية يبدو أكثر ميلا إلى المبالغة والرمزية في التعامل مع عناصره، كما أننا ربما نلمس جمالا آخر في هذه الأعمال، يمكننا مثلا أن نرى امرأة جميلة تمتطي ظهر سمكة، أو رجلا يروض أوزة ضخمة وهو يمسك بعلم فلسطين، أو أن تتحول النباتات والأشجار في الخلفية إلى فتيات جميلات، أو طائرا ملونا ضخما يتجول بين أهرامات الجيزة. جمعتني عدة لقاءات مع الفنان التشكيلي العظيم محمد حجي في شقته التي كانت بمثابة منتدى يجمع كافة المثقفين والمطربين والصحفيين، ولاحظت براعة حجي في فن الحكي، حيث كان يسافر بنا عبر المكان والزمان ليحكي لنا مغامراته مع الفن التشكيلي في قريته بالمنصورة، وليبيا وفلسطين وتونس، ولم أضبط محمد حجي متورطا في نميمة تنتقص قدر أي زميل، لولا لهجته وملامحه الفلاحية لظننته بأناقته وعزة نفسه، فارسا من عصر سابق، واكتشف أن محمد حجي تجربة تشكيلية تستحق الوقوف عندها كثيرا، كونها تأثرت بمزيج من المدارس والاتجاهات لتخلق لها نمطا فريدا، كشف موهبته في مرحلة الطفولة بإحدى قرى المنصورة، وهو يلاعب الأقلام الملونة خالقا منها لوحات استأثرت بمدرسيه فشجعوه على المواصلة. في كل زيارة لمنزل محمد حجى، لابد أن تندهش وتتعجب من عدد اللوحات الكثيرة المعلقة على الحائط أو مكومة فى ركن من الأركان، حيث أن تنوع المدارس والاتجاهات التى تمثلها اللوحات لشيء بأن لها أكثر من صاحب، أو أن الفنان مازال يبحث عن طريق أو أسلوب يرتاح إليه، وكان لابد أن أطلب منه التفسير، فكان يقول: إننى أرسم ولا أعرض، ليس تعففا، وإنما واقع الحركة التشكيلية المصرية لا يسمح باستيعاب كل ما ينتجه الفنانون، بسبب انشغال الناس فى البحث عن لقمة العيش وتراجع الاهتمام بالفنون الجميلة فى العشرين سنة الأخيرة، لذا فأنا أخرج من مدرسة لأدخل فى أخرى استجابة لتطورى الفكرى والفنى والانفعالى بالأحداث العامة والخاصة، دون أن أحظى بنعمة نقد لوحاتى، كل ما أفعله أنها تتكوم عندى. وأذكر كان يستطرد بطريقة مدهشة وجذابة قائلا: شاهدت عددا من اللوحات تستلهم الحرف العربي ومن المعروف أن المدرسة الحروفية ظهرت فى العراق ومصر فى الخمسينات من هذا القرن الآخذ فى الرحيل، كتعبير تشكيلي عن هوية عربية، ثم لاقت رواجا فى السبعينيات عندما اقبل الخليجيون على اقتناء لوحات تحتفى بالحروف العربية، برغم أن معظم هذه اللوحات سقطت فى مستنقع الزخرفة والرياء عندما استهدف إرضاء المزاج النفطى، وكنت أتوقف كثيرا أمام لوحته البديعة "حروفيات" تلك التي قدم محمد حجى صياغة فريدة لعدد من الحروف تداخلت وتشابكت وأنتجت تكوينا مثيرا أقرب إلى إيقاعات موسيقية تفوح فى الفضاء الرحب، وقد شاهدت فى حروف العين والباء والسين، أنها تمتعنا بهذه الكوكبة من علامة التشكيل والنقط، خاصة وأن الفنان التزم فى إنجاز هذا العمل على إبراز التوازن بين الكتل المختلفة للحروف، فضلا عن إدارة الصراع بين الظل والنور بحكمة وتمكن سمحت من استقبال لذة المشاهدة بيسر. ولعل التجربة الأبرز في حياة الفنان الراحل هى تفاعله مع القضية الفلسطينة، وكما عبر الإنسان العربى..عن مأساة فلسطين التراجيدية المستمرة فى الشعر والأدب والموسيقى والفن التشكيلى، بأساليب واتجاهات متنوعة، فقد لاحظت أن الفنان محمد حجى.. ينحو نحوا مغايرا.. فى إنتاجه رسوم غزيرة (تعد بالمئات) عن الانتفاضة، وقد استخدم الفنان حجى الوسائط الحديثة.. من صور حقيقية.. يشاهدها كل العالم فى التليفزيونات.. والفضائيات.. والجرائد.. والمجلات، وهو هنا يعتمد على الواقع وليس على الخيال فى تجسيد لوحاته السريعة، التى تحمل شحنة كبيرة من وجدانه، تنعكس بشكل مباشر على المشاهد.. كما تلهمه شخصيا لإنجازها فى لوحات صرحية ضخمة بالألوان الزيتية بعد ذلك. ولقد أدركت من خلال تلك اللقاءات التي جمعت بيننا، أن الفنان محمد حجي يتميز بتقنية فريدة تدعونا أن نحلم معه ونسبح في عالم كله مليء بالإيحاء من خلال وجوهه الهجينة وخطوطه الخشنة التي اعتمد فيها على مواد طوعها بكل تلقائية مستلهما منها ألوانا ذات رمزية، احتفالية رغم صمتها، فالألوان التي يستخدمها محمد حجي في أغلب أعماله نجد الداكن القريب للسواد والذي يعبر من خلال على الواقع المؤلم، ثم النيلي المائل للطين كتعبير عن الأصل و المكان، إلى جانب الأزرق مع البياض وصولا للأزرق المشوب بالرمادي في لوحات أخرى كدلالة على الأمل و الفرحة الموجودة بين ثناياها، مشدودة بمساحات ضيقة متوافقة، تلامس الخروج لعالم لا متناهي، تعكس خصوصية المكان الذي سكنه، و بالتالي يعيد من خلال إطلالة تلك الوجوه عبر تلك المساحات كتابة الماضي من خلال رؤية معاصرة تتطلع للمستقبل و تهتم بالإنسان وهمومه. لقد كانت طفولة محمد حجى هى المصدر الأول لهذه العناصر التى تتجول فى رسومه والتى رسخت فى ذاكرته أصبحت تميز أعماله حيث قضى طفولته وصباه فى الريف المصرى وسط دلتا النيل بالغة الغنى بالطيور والنباتات والفراشات والبشر، أما المصدر الثانى فهو تأثره بالرسوم الصخرية التى اكتشفت فى هضبة التاسيلى بجنوب غرب الجزائر والتى زارها الفنان مرتين، هذه الرسوم يرجع تاريخها إلى عشرة آلاف عام قبل الميلاد ويقول عنها بعض العلماء بأنها أحد مصادر الفن الفرعونى، وفى رأيى أن المصدر الثالث لرؤى الفنان محمد حجى الغنية هى ثقافته الموسوعية، بجوار تأمله الدقيق لفنون الحداثة التشكيلية وإطلاعه على إبداعات أساتذة الفن الكبار. هذه المصادر الثلاثة مكنت الفنان محمد حجى من ابتداع أسلوبا رمزيا استمد جذوره من تخيلاته الميتافيزيقية والأساطير القديمة التى تتماشى مع تفسيره الفلسفى لمصير الإنسان كما مكنته أيضا من التوصل لهذا الجو السحرى المغلف للعالم المرئى الذى يصوره فى رسومه، كما جاء في لوحاته التي رافقت (أحلام فترة النقاهة) للأديب العالمي نجيب محفوظ التي نشرت في سلسلة على صفحات مجلة (نصف الدنيا) بداية من يناير سنة 2000 حتى رحيله في عام 2006، ويمكننا أن نصف محمد حجى من خلال تلك الرسوم بأنه فنان زاده الخيال وهو اصدق وصف لهذا الملاح الذى جذبه الفن لأغواره السحيقة. وحجى - كما يقول على لسانه - نشأ فى بيئة ريفية تعطى للحلم مكانة كبيرة فى تفسير الحياة وتعتمده أسلوبا فاعلا للتأثير فى مجرياتها لذلك انصب اهتمامى منذ فترة مبكرة على ضرورة دراسة الأحلام وتأملها، وقد استطعت عبر دراسة علمية أن أفهم رموزها المعقدة وأن أفسر مداولاتها الملتبسة ومع ذلك لم يشغلنى هذا قط قدر ما شغلنى الإحاطة بعالمها السحرى المتحرر من كل قيد.. ذلك العالم الذى يشى بمعان جريئة وغامضة تقبع فى مناطق بعيدة عن أعماق النفس، ويضيف: عندما بدأت أرسم أحلامى كنت فى قمة تمسكى ودفاعى عن المدارس الواقعية التى سادت فترة الستينيات من القرن الماضى حيث كنت أدرس فن التصوير فى كلية الفنون الجميلة وأعمل رساما صحفيا فى نفس الوقت.. ولم أحاول نشرها أو عرضها على أحد فقد كنت أشعر وكأنها متنفس لى مما أعانيه عند قيامى بتلك الرسوم الواقعية المكبلة بمتطلبات الطباعة وظروفها التقنية والتى لابد أن تراعى فى الوقت نفسه أحوال الصحف التى كانت تنشر بها وهى أحوال معقدة ومتنوعة . لم يكن ممكنا أن يحترف حجى عملا آخر غير الرسم الصحفى فهو لديه قناعة أن الفن اختاره لهذه المهمة وهو لم يختر شيئا ويقول: كانت لدى موهبة مبكرة فى هذا النوع من الرسم.. كنت مغرما بالرسوم والصور فى الكتب والمجلات، كانت نشأتى فى بيئة ريفية تحرص على الإبداع حتى لو كانت أذهان أصحابها بعيدة عن الفن ولذلك كانت دهشة الجميع عندما وافق والدى الفلاح البسيط على دراسة الفنون فى مصر فى وقت كان يحلم الجميع لأبنائهم بوظيفة يأكلون منها عيش، كنت أرى أن الرسم الصحفى له مميزات قد لا تتوافر للفن التشكيلى الذى يكتفى بعرضه فى المعارض.. أولها قدرته فى الوصول إلى عدد أكبر من الناس.. فهناك الملايين الذين يطالعونك فى الصحف والمجلات فضلا عن الإحساس بالمسئولية، وكونك لابد من أن تمتلك الجرأة والشجاعة للدفاع عن أفكارك. ويضيف: إننى اتجهت إلى هذا الفن فى وقت كان يمر بأكثر عصوره ازدهارا وكانت هناك أسماء لامعة فى كافة الصحف والمجلات فهناك مدرسة روزاليوسف التى انتميت إليها حيث يوجد أسماء مثل "أبو العينين وحسن فؤاد وجمال كامل" وغيرهم وكان هناك منذ بداية الأربعينات فى دار "أخبار اليوم" رسام عملاق مثل "كنعان وطوغان" وغيرهما وفى الأهرام الحسين فوزى، وكان هؤلاء جزء لا يتجزأ من منافسة الصحف والمجلات إلى أن جاء جيل من قادة الصحف غير مشغول بهذه القضية ولكنه مشغول بالحفاظ على انتماء الجريدة السياسى فضلا عن وجود مخرجى الصحف من خريجى كلية الإعلام غير المتحمسين لهذا النوع من الفن، وبالتالى بدأ هذا الفن فى الانسحاب أو التوارى.. رحم الله الفنان التشكيلي الكبير الراحل محمد حجي بقدر عطائه وتفاعله مع قضايا الناس.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;