لم أعرفها أو أسمع اسمها إلا من خالى - رحمه الله - الذى كان بالنسبة لى أبا وصديقا ومعلما وكل شىء، وكان هذا الرجل مثقفا وعاشقا للمعرفة والقراءة، وكان دائما ما يحثنى ويشجعنى على قراءة أى شىء منذ طفولتى، وأتذكر يوما عندما كنت فى الـ14 من العمر عندما كنت أتحدث إليه، وهو يقرأ أحد الكتب فى حجرته بعد الغداء كعادته دائما فإذا به يقول لى "عارفة أنا أقرأ كتاب لسيدة اسمها نوال السعداوى هى بتكتب كتب مهمة تناصر فيها المرأة وتحثها على المطالبة بحقوقها، وهى كمان طبيبة بشرية يعنى درست الطب، ودا دليل إنها كانت شاطرة ومتفوقة فى دروسها كما كانت من أوائل السيدات المصريات اللى تعلموا ودرسوا فى كلية الطب، وأيضا بتكتب كتب فيها فكر مختلف عن اللى سائد وموجود فى أى كتب تانية، وأنا عايزك تبقى زيها لما تكبرى تذاكرى كويس وتتفوقى وتقرأى الكتب اللى بتكتبها عشان هى بتكتب ليكى ولكل البنات والسيدات يعرفوا حقوقهم وما يتنازلوش عنها، عشان كدة حاولى تاخدى أى كتاب لها واقرأيه على قدر استطاعتك"، هذا كان رأى خالى منذ أكثر من 28 عاما ومنذ هذا اليوم وأنا مخلصة للنصيحة وما أوصانى به من قراءة ما تكتب، وأستطيع أن أقر بكل ما تعلمته وأدين لها بالفضل منذ هذا السن الصغير، وبكل ما أعتقد به وساهم فى تكوينى الفكرى والإنسانى والحقوقى تجاه نفسى أولا ثم تجاه عقلى وفكرى ووجدانى، وتأثير ذلك على دراستى للصحافة وحرصى الكامل على تفوقى العلمى والدراسى أسوة بها وما تلاه على أسرتى وأولادى بعد ذلك، ولا أنسى اليوم الذى التقيتها فيه لأول مرة وجها لوجه، حيث أجريت معها اتصالا تليفونيا للترتيب لعمل حوار صحفى للأهرام منذ أكثر من 12 عاما، وكانت عائدة لمصر بعد فترة كبيرة من الغياب بسبب النفى الإجبارى لها من جراء قضايا الحسبة وتكفيرها والتحريض على أعمال العقل والتهديد بالقتل وغيرها من الاتهامات التى التصقت بها طوال حياتها بسبب كتبها وكل تصريحاتها وكتاباتها فى مجال الحريات وحقوق المرأة قضيتها فى الحياه التى وهبت نفسها للدفاع عنها منذ مولدها، وأذكر كم كانت لطيفة ومرحبة بعمل الحوار بالرغم من كل الآلام التى كانت تشعر بها جراء الحملات البشعة والمجرمة فى حقها كامرأة لا تملك إلا عقلا وفكرا وقضية تدافع عنها عن طريق القلم والكتب، ولم يكن لديها سلطة أو نفوذ أو مال أو حتى إعلام محترم موضوعى يناقشها فى أفكارها.. وجدتها امرأة قوية جدا كما كنت أتوقع، وذكرت لها أننى من قرائها وبناتها المخلصات لفكرها فى أعمال العقل والدفاع عن المرأة وقضاياها والحرية التى لا تسيل الدماء ولا تستبيح الأرواح ولا تحرض على العنف والكراهية ولا التمييز بين الرجل والمرأة، وكم كانت سعيدة ومتفائلة كعادتها بالرغم من كم التحريض والكراهية الذى يحيط بها.
واستمرت علاقتى الإنسانية بها إلى هذا اليوم وسوف تستمر إلى آخر يوم فى حياتى، واعترف بفيض محبتى واحترامى لها، والذى يزداد يوما عن يوم وكلما اقتربت منها أكثر، ولمن لم يعرف هذه السيدة والطبيبة والأديبة فهى أول من حاربت من أجل منع ختان الإناث منذ أكثر من 60 عاما، ومن واقع دراستها العلمية كطبيبة وكانت قضيتها الأهم فى الوقت التى كانت الجريمة ترتكب فى حق كل بنت فى كل بيت مصرى، هذه السيدة دافعت عن حق المرأة فى التعليم والمعرفة حتى تكون إنسانا كامل القيمة لنفسها ولأسرتها ولمجتمعها لأن المرأة ليست نصف المجتمع فقط، لكنها هى أيضا من تنجب النصف الآخر وهى أصل وأساس كل شىء، هذه السيدة هى من دافعت عن حقوق الإنسان والمرأة من القوانين الوضعية الظالمة والمجحفة لها فى الحياة والزواج والعمل وتربية الأبناء، هذه السيدة دافعت عن الحرية والعدالة والمهمشين والفكر والإبداع ومازالت بالرغم من كل التشويه والسب والقذف من الجهلاء وغاوى الشهرة، هذه السيدة سجنت وتم نفيها وإبعادها عن بيتها وبلدها وتعرضت للقتل المعنوى والجسدى ومازالت ولم تتوقف عن الدفاع عن قضاياها التى تؤمن بها، هذه السيدة لم تداهن أو تدلس لسلطة أو أى قوى أخرى من أجل الحصول على أى شىء فهى تقول ما تؤمن به فقط، هذه السيدة مثل أعلى وقدوة للنساء فى كل دول العالم من جراء كتبها التى تخطت اليوم الـ50 كتابا والمترجمة لكل لغات العالم، والتى تصنف من أعلى الكتب مبيعا فى كل المكتبات العالمية، ويحتفى بها فى العالم كله من خلال المنتديات الفكرية والإنسانية والمحاضرات التى تلقيها فى كل جامعات العالم إلا بلدها.
هذه السيدة والتى تخطى عمرها الـ80 عاما مازالت تعمل وتكتب وتحلم بمجتمع عادل يحترم الإنسان تحلم بمصر دولة كبيرة وعظيمة بالعلم والبحث العلمى والتفكير وأعمال العقل والإبداع هذه السيدة هى أول من طالب بتجديد الخطاب الدينى وفصل الدين عن السياسة التى تدنسه والذى يطالب به الجميع الآن وأول من حذرت من خطورة الجماعات المتطرفة التى تتاجر بالدين، كل ما سبق جزء بسيط من سيرة وقيمة هذه السيدة المصرية العظيمة التى يتم اغتيالها كل يوم منذ عشرات السنين، والتى يتم تشويها عمدا من الجميع من معدومى العلم والأخلاق والثقافة واحترام الغير ومن المرأة أيضا التى وهبت نفسها للدفاع عنها، ألم يحن الوقت لوقف هذا الاغتيال العبثى والتحريض على قتلها ورجمها لمجرد وجودها فى ندوة لمناقشة أحد كتبها عن "المرأة والصراع النفسى" والذى نشر لها عام 1976.... ألم يحن الوقت لانتفاضة المجتمع المصرى المثقف المحترم للدفاع عن هذه الأديبة التى لا تريد غير الكتابة والعمل بسلام دون الإساءة والتحريض على اغتيالها والتشهير بها فى مجتمع متجمد جاهل لا يحترم الغير ولا يريد إعمال العقل ولا يناقش الفكر بالفكر.. أنا هنا لا أطالب بتكريم هذه الأديبة الكبيرة ومنحها ما تستحق لأنها لا تريد أى شىء لكن أطالب الجميع بحمايتها من الإجرام والاغتيال الذى يحرض عليه من لا قيمة لهم فى مجتمعنا.