سطر صوفى الصحافة المصرية، أحمد بهجت، خواطره الإيمانية عن رحلات حجه فى كتاب رائع أسماه «الوقوع فى هوى الكعبة»، ويبدو أنه استلهم عنوانه من قوله تعالى «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ».
لقد تأمل الأية فوجد أنها تخاطب الأفئدة، وليس الأجساد، إنه يريد أفئدتهم، وليس أجسادهم فحسب، إنه يريد مشاعرهم وقلوبهم قبل أبدانهم. وصدق والله «بهجت» «فالناس تسير إلى الله بقلوبها لا أبدانها» كما يقول الزهاد والعلماء الربانيون، وكم من حاج ذهب بجسده ولم يذهب بفؤاده، وكم من حاج ليس له من حجة إلا التعب والنصب، ذلك الرجل التى تقول له الملائكة: «لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك». وعلى العكس من ذلك هناك من تطوف روحه مع الحجاج، مع أنه لم يبرح وطنه، وقد قيل لابن مسعود، عندما حال حائل بينه وبين الحج: «والله ما صعدنا جبلاً ولا نزلنا سهلاً إلا رأيناك معنا».
وهذا أحد الصالحين كان ذاهباً إلى الحج فرأى امرأة تأكل من الزبالة وتلتقط منها الطعام، فسألها عن أمرها، فقالت: معى أيتام لا عائل لهم، فأعطاها كل ما معه من أموال! وقال لأصحابه لقد مرضت مرضاً شديدا،ً ولن أستطيع الذهاب معكم للحج، وعاد إلى بيته، فلما عاد الحجاج أخذوا يهنئونه بالحج، فقال لهم «أنا لم أذهب فقالوا له: لقد كنت معنا فى كل المناسك، وكأن الله أرسل ملكاً بهيئته يحج عنه، جزاء بما صنع مع هؤلاء الأيتام».
«الوقوع فى هوى الكعبة» هى خواطر إيمانية رائعة لكاتب من أعظم كتاب مصر، وأشرف من أمسك بالقلم، وأدرك عظم قسم الله به «وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ»، إنه أحمد بهجت الذى لم تلد الصحافة المصرية حتى الآن مثله.
عندما ركب الطائرة فى بداية رحلته أخذ يبتهل إلى الله كثيراً شاكراً نعمة الطائرة التى لولاها لذاق الأمرين، وعاش ما عاناه الأسلاف من اجتياز الصحارى والبحار فى أشهر طويلة، ولتعرض للحر أو البرد مع الأهوال والخوف.
«بهجت» يرى أن رحلة الحج المباركة هى محاولة لاكتشاف اليقين الكامن وراء الرمز الإيمانى العظيم فى الكعبة والروضة الشريفة، يرى أن قوانين العبادة تشبه قوانين الحب فى كثير من طقوسها الخارجية، ومعانيها الباطنة، وكلاهما يتطلب الطاعة دون إخضاعها للمنطق وكثرة السؤال. فهناك حجر يُقبل ويسلم عليه، وحجر آخر يرمى، وحجر ثالث يطاف حوله، إنها حكمة علوية تناهت عن تفكيرنا السطحى وعقولنا القاصرة، إنه الاستسلام لرب العالمين والانقياد للمحبوب الأعظم سبحانه، ذلك الاستسلام الذى تعلمناه من إبراهيم عليه السلام «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»، قيل له اترك زوجتك هاهنا دون أنيس ولا جليس فى صحراء مكة فتركها، وقيل له اذبح ولدك بعد أن بلغ السعى معك، وأصبح فى ريعان الشباب، فاستجاب لأمر ربه ومولاه، وقيل له ارفع أنت وولدك قواعد البيت هاهنا فرفعها، وهو يرجو القبول هو وابنه، إنها الأسرة المباركة التى نستلهم تاريخ إيمانها وصدق يقينها وعمق توكلها على الله مع كل منسك من مناسك الحج.
إنها رحلة «الأمان المطلق» كما يسميها «بهجت» أو «رحلة الهوى والعاطفة نحو بيت العبادة الأول» كما يسميها أيضاً، وإلا كيف تفسر بكاء المرأة العجوز التى تحلم أن تزور الكعبة قبل أن تموت؟ ورغبة الشاب فى زيارتها قبل أن يكبر؟
من أجل ذلك وغيره رفض «بهجت» أن ينام فى الفندق كغيره، وصمم أن ينام فى الحرم إلى جوار الكعبة «عشقه الأول والأخير» فالحياة فى الحرم المكى تمضى بك دون أن تشعر، سعادة وصفاء ومشاعر فياضة، رحم الله «بهجت» وسلم كل الحجاج، ورزق من لم يحج يسر الحج.