مرت السياسة المالية فى الدراسات القديمة والحديثة لمعظم دول العالم بتطورات عميقة نتيجة لتطور دور الدول فى الاقتصاد فى النطاق الواقعى والفلسفى معا. حيث تأرجحت من أقصى الغرب (حيث الرأسمالية) إلى أقصى الشرق (حيث الاشتراكية) حتى وصلت إلى الوسط المحايد (حيث الاقتصاد المختلط).
ولقد شمل هذا التطور الذى لحق بالسياسة المالية حجم الكميات المالية وأهدافها. وانتهى بها، فيما بين القرنين العشرين والواحد والعشرين، إلى أن فقدت (السياسات المالية )، فيما يتعلق بهذين العنصرين، حيادها التقليدى. ويمكن ونحن بصدد عرض تطور السياسة المالية، حتى ما وصلت إليه اليوم، أن نردها إلى ثلاث سياسات مالية عامة، تقابل كل سياسة منها مرحلة من مراحل تاريخ الاقتصادى للدول على مر العصور الحديثة. وهى: السياسة المالية المحايدة، وتقابل مرحلة ما يعرف " بالدولة الحارسة"، والسياسة المالية المتدخلة، وتقابل مرحلة ما يعرف " بالدولة المتدخلة فى النظام الاقتصادي"، والسياسة المالية الاشتراكية، وتقابل هذه الأخيرة مرحلة ما يعرف " بالدولة الاشتراكية".
ونعرف هنا باختصار التطور الذى لحق الدولة العصرية، بشكل عام، والسياسة المالية بالانتقال من "دولة التجاريين" إلى "دولة المذهب الحر"، أو ما يعرف أحياناً أيضاً " بالدولة الحارسة". وذلك لأن دولة التجاريين قد حملت فى طياتها بذور فنائها، وخلت مكانها لدولة المذهب الحر "دعه يعمل دعه يمر"، والذى تبنى آليات السوق الحر كامل المنافسة من الناحية النظرية والفلسفية. وذلك لأن واقع التطبيق أثبت على مر الزمان أنه لا توجد منافسة كاملة بمعناها الاقتصادى الأصيل فى أى نظام اقتصادى ولا أى دولة فى العالم على الاطلاق، بل هناك "المنافسة الاحتكارية" أو احتكار القلة".
لذا ولدت أولا "دولة التجاريين" فى أوروبا من خلال القوى الاقتصادية والسياسية والحربية والدينية والتى تمخضت عن سيطرة السلطات المركزية هناك. حتى خرجت علينا من حطام القرن عدة قوى وطنية، وهى ما عرفت بعد ذلك "بدولة التجاريين" لتسيطر على الحياة الاقتصادية. وقد ساد مذهب التجاريين هذا، وهو يقوم فى الأساس على تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية، خلال الفترة فى النطام الفكرى وفى نظام السياسة الاقتصادية أيضاً. وكان لنشأة دولة التجاريين ولظهور مذهبهم أثار ملموسة فى السياسة المالية والسياسة الاقتصادية العامة لدولة أوروبا، نجمل أهمها فيما يلى؛ حيث زادت النفقات العامة للدول، وخاصة لأسباب زيادة نفقات البلاط الملكى واتساع إطاره الادارى فى دول أوروبا، هذا بالإضافة إلى ضرورة انشاء والاحتفاظ بجيوش كبيرة لتنفيذ السياسات الاستعمارية الخارجية، وأخيراً الرغبة فى تشجيع الصناعة والتجارة والزراعة وفى صنع بنية أساسية مساعدة للمرافق العامة الجديدة للدولة العصرية بعد الثورة الصناعية هناك. وأدت كل هذه الزيادات فى الإنفاق العام على نحو ما تقدم إلى ضرورة التوسع فى الضرائب بكل أنواعها حتى أصبحت ايرادات تقليدية وسميت "الإيراد العادى"، إذ ازدادت حصيلة الإيراد العادى عن دخل أملاك الدولة ذاتها آنذاك. ولئن كانت الموارد العادية، فى الحقيقة، كافية لتغطية النفقات العامة المطلوبة فى وقت السلم، إلا أن هذا التوازن بين الايرادات والنفقات العامة كان يختل فى أوقات الحروب. وهو الأمر الذى جعل دول أوروبا تبالغ فى استخدام الضرائب حتى فى أوقات السلم إلى جانب الالتجاء إلى القروض والوسائل غير التقليدية من الإيرادات الأخرى تحسباً للحروب القادمة والغزوات. وأكثر استخدام الضرائب والاعتماد عليها بصفتها وسيلة لمنع أوجه النشاط الاقتصادى الغير مرغوب فيه سواءً فى ميدان الاستهلاك أو ميدان الانتاج. الأمر الذى أظهر ولأول مرة دور الانفاق العام والضرائب كأدوات مالية يمكن الاعتماد عليها فى تمويل وتوجيه الأنشطة الاقتصادية العامة والخاصة، حتى فى أوروبا.
وهو ما سوف نعرض فى مقالات قادمة لنوضح التطورات التى لحقت بالسياسة المالية، حتى يمكن أن نستفيد منها فى مصر ونحن نضع السياسة الاقتصادية العامة لمصر المستقبل.