تلجأ الحكومات الراشدة إلى الاستثمار فى الإنسان عن طريق تنميته ورعايته وتطويره، أما الاستثمار فى «الأطفال» فهو أمر بمثابة «فرض عين» على جميع الحكومات، سواء كانت راشدة أو غير ذلك، فلا يوجد ما هو أشد قبحا من أن تستقوى الحكومة على من لا حول لهم ولا قوة، ولا يوجد ما هو أبشع من أن تحمل الحكومة آثامها للمستقبل، فتُضْعِف الأقوياء، وتزيد من ضعف الضعفاء، وهنا لنا أن نسأل: إلى أى قاع وصلنا بعد أن حرمنا أطفالنا «الرضع» من شربة لبن تقيم ظهورهم؟
برغم النفى، وبرغم بعض الإجراءات العاجلة التى اتخذتها الحكومة، لكن للأسف استمرت أزمة توافر لبن الأطفال المدعم بشكل كبير، حتى إن بعض الآباء لجأوا إلى تحرير محاضر ضد وزير الصحة متهمين إياه بالتسبب فى الضرر لأبنائهم، بينما وزير الصحة على شاشات الفضائيات يدعى أنه «لا توجد أزمة فى ألبان الأطفال بمصر»، وأن «جشع التجار هو العامل الأساسى للأزمة المفتعلة»، كما ادعى أن الذين تجمهروا جائرين بالشكوى هم «تجار السوق السوداء»، وفى الحقيقة، فإنى حتى هذه اللحظة كنت أكن تقديرا كبيرا لهذا الوزير لكن تلك الكلمة خصمت من رصيده بشكل كبير، فقد رأينا كلنا أن الذين تجمهروا كانوا آباء مقهورين وأمهات حزانى، وأطفال مساكين، فلماذا التعامى؟ ولماذا المغالطة؟
للمرة الألف تصر الحكومة على تحميل المواطن آثامها، فلو صدقنا كلام الوزير أن «جشع التجار» والسوق السوداء هما السبب فى الأزمة، لماذا تحملنا الحكومة تقصيرها فى الرقابة؟ ولماذا تحملنا أوزارها فى عدم المحافظة على أقوات أطفالنا؟ وكيف بين ليلة وضحاها ترفع وزارة الصحة سعر اللبن المدعم من 17 جنيها إلى 26 جنيها؟ ألا تعرف الحكومة أن الذين يتهافتون على الألبان المدعمة هم أرق فئات الشعب حالا، وألا تعرف أن علبة اللبن بالكاد تكفى لثلاثة أيام، وأن هذه الزيادة ستصبح حوالى 270 جنيها شهريا؟ وأن هذه الزيادة وحدها دون ثمن اللبن الأصلى كفيلة بأن تعجز أبا يتقاضى 1500 جنيه، ويدفع إيجارا وكهرباء ومياه؟ ثم لماذا تجهد الحكومة نفسها فى تلك الأزمة وتوزع مجهودها ما بين استيراد الألبان وتعبئتها وتوزيعها والتعرض للتبديد أو تلاعب التجار، أوليس من المجدى الآن أن توزع دعما ماديا على الآباء أو الأمهات؟ أليس فى هذا الحل راحة للجميع؟