كنت قد قدمت فى مقال سابق ما يعرف "بدولة التجاريين" ومع الزمن بدأت دولة التجاريين هذه، شأن النظم السابق عليها، فى التغيير تدرجياً والخروج عن منطق تدخل الدولة فى الاقتصاد كما كان فى دولة التجاريين.
فقد حملت نزعة التجاريين بذور فنائها وذلك لأن أهداف ووسائل الرقابة الحكومية لم تعد مقبولة من أفراد المجتمعات الأوروبية الذين بدأوا يبحثون عن تحقيق مصالحهم الشخصية، والتى عرفت فيما بعد "بالرأسمالية المتوحشة"، بحيث ينتهزون فرص الربح الطائلة التى صنعها اتساع التجارة العالمية، ويضيقون بالقيود المفروضة على النشاط الاقتصادى على حساب فى كل دول العالم. وانتهى الأمر بأن قويت الفلسفة المعارضة للسلطة التحكمية وللحق الملكى المقدس فى الاقتصاد. وأتوقع أن ذلك كان رد فعل لمساوئ تدخل الملوك والطبقات الارستقراطية فى تشكيل النظام الاقتصادى بما يحقق مصالح البلاط الملكى وأعوانه والحاشية المحيطة بهم. واكتملت تلك الفلسفة المعارضة بفكرة "الوضع الطبيعي" و"القوانين الطبيعية" والتى يجب أن تحكم الحياة، ومنها الحياة الاقتصادية، من خلال كتابات "توماس الاكويني" مروراً "ببتشيسون" و"روسو" حتى "الفزيوكرات". ومن خلال تلك الأفكار الوضع الطبيعى والقوانين الطبيعية خرجت الفلسفة الفردية التى تجعل الفرد دون الدولة ( أو السلطة الحاكمة) ودون أى وحدة أخرى موضوع النظام العام للحياة وهدفه بما فى ذلك النظام الاقتصادى الكلى ولم تكمن هذه الأفكار جديدة ولكنها فى ذلك الوقت لاقت استحسان وقبول من المجتمعات الغربية جمعاء وأدت افكار المدرسة الطبيعية، بالإضافة إلى النزعات الفردية، إلى ظهور "المذهب الحر"، ثم إلى نشأة "دولة المذهب الحر"، ثم أخيراً "الاقتصاد الحر".
وعم الاعتقاد فى حقوق الانسان، وأنه من الطبيعى، بل ومن الضرورى ألا تتدخل الحكومات فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وكان من نتائج ذلك الفكر أن بدأ الوضع يتغير تدريجياً بزيادة الحريات الفردية وانكماش تدخل الدولة فى الحياة بشكل عام وفى الاقتصاد بشكل خاص. وذلك لأن المذهب الحر قد اعتبر الوظائف العامة شر لابد منه، شر يجب أن يقتصر فى أضيق الحدود. ومن هنا أدى هذا المذهب الحر إلى أن انحصرت وظائف الدولة فيما يعرف "بالدولة الحارسة" بحيث يقتصر دورها على حماية حقوق الأفراد والمجتمع والنظام العام للدولة. أى ان تقوم الدولة فقط بأعمال الجيش والشرطة والقضاء، ويترك الدخل القومى للأنفاق الخاص "أى للقطاع الخاص"، وتمارس السياسة المالية دوراً يعرف بالدور المحايد أو "السياسة المالية المحايدة". وننبه هنا أنه ليس المقصود بالحرية الاقتصاد فى مذهب الدولة الحرة ألا يكون للدولة اى دور رقابى على الحياة الاقتصادية (كما يتصور البعض)، بل كان المقصود أت ترد تلك الرقابة إلى أضيق حد ممكن. فمبدأ الحرية الاقتصادية يعنى "الدولة المقيدة" بالقياس إلى الرقابة الواسعة التى كانت تمارس فى "دولة التجاريين" سالفة البيان. ولقد عمل هذه المبادئ فى كل من أمريكا وانجلترا، حيث كانت روح العصر آنذاك راغبة فى التخلص من السلطة التحكمية للدولة. وجاء هذا الدور الجديد للدولة المقيدة، أى الدولة الحارسة ليقضى على الرقابة الحكومية الواسعة والتدخل الشديدة فى الاقتصاد والتى كانت أكثر سيطرة فى تاريخ المجتمعات من الرقابة المحدودة المقيدة للدولة على مر العصور. ثم انتهى العالم إلى وضع النظرية الاقتصادية التقليدية متكاملة الجوانب فيما يعرف بالأساس العلمى "للدولة الحارسة " ومبدأ عدم التدخل فى الاقتصاد من جانب السلطات المركزية. وأكدت فلسفة "الدولة الحارسة" أن النشاط الخاص (أى القطاع الخاص وحده) كاف لتحقيق التوازن الاقتصادى الكلى فى كل الأوقات وقادر على حل جميع المشكلات الاقتصادية الجزئية والكلية أينما وجدت.
وعليه خلصت النظم الاقتصادية الغربية إلى أن السياسات المالية فى أى دولة لا يجب أن تتدخل فى الشئون الاقتصادية والاجتماعية، وإلى أنها يجب أن تقتصر على الأغراض المالية وحدها. ومن هنا انتقل العالم من عالم التجاريين إلى عالم الدولة المقيدة، حتى قيام الحرب العالمية الأولى وبعدها تبدل الحال. وهذا ما سوف نفرد له مقالاً آخر.
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة