ربما هى المرة الأولى التى تجرى فيها هيئة رقابية استطلاعًا بين المواطنين عن انعكاس جهودها فى مواجهة الفساد على تفاصيل حياتهم اليومية، الاستطلاع أجرته هيئة الرقابة الإدارية بعد جهود منتظمة فى التفتيش المفاجئ على مختلف المؤسسات الصغيرة بالمحافظات من الوحدات الصحية، وأفران الخبز، إلى البنزينات والصيدليات الرسمية، وجاءت النتائج مبشرة، وتعكس وعى المواطنين بالجهود المبذولة لمكافحة كل أشكال الفساد، خاصة ما يعرف بالفساد الصغير الذى تفشى فى مختلف تعاملاتنا اليومية، وبدا كجزء من منهج حياة المواطنين.
مشاهد رجال الرقابة الإدارية فى البنزينات، ومعهم الفنيون يقيسون ما إذا كان هناك غش فى نوعية وجودة البنزين، ويسألون المواطنين عما إذا كانوا يدفعون أكثر من السعر المقرر، وكذا مشاهدهم وهم يفاجئون الوحدات الصحية فى القرى النائية والمستشفيات فى المحافظات، ويسجلون أوجه القصور، وغياب المتخصصين من أطباء وهيئات تمريض، ومن ثم محاسبتهم، وكذا مشاهدهم فى المخابز، ومتابعتهم جودة رغيف العيش، ومنظومة التوزيع، وضبط المخالفات التى تشوبها، كلها أكدت مفهومًا واحدًا، أن هناك روحًا جديدة فى مواجهة كل أشكال الفساد المتغلغل فى منظومتنا الحياتية.
لا أتكلم هنا عن قضايا الفساد الكبيرة التى نجحت الرقابة الإدارية فى كشفها، من أول قضية وزير الزراعة، وانتهاء بالمسؤولين الذين تساقطوا فى قضايا رشوة وتربح وسوء استغلال وظائفهم، فالفساد الكبير مرصود، ويجرى حصاره، وتجفيف منابعه أولًا بأول بأساليب وطرق مختلفة وبأدوات مبتكرة، منها لجنة استرداد أراضى الدولة، ولجنة منع التعديات على النيل، ولجنة استعادة الأموال المهربة إلى الخارج، وكذا شعور جميع المسؤولين بأن المنصب مغرم وليس مغنمًا، بمعنى أن قبوله هو فى الأساس رغبة خالصة لخدمة البلد فى مرحلة النهوض والتعافى، وسيادة هذا المفهوم وحده كفيلة بالقضاء على كل أشكال الفساد الكبير، ويتبقى تغيير مفاهيم الحياة، والتعاملات بين المواطنين التى تقوم فى العادة على مخالفة القانون.
ولأول مرة أيضًا نرى جمعيات أهلية، ونوابًا برلمانيين يتحدثون عن الفساد الذى تم ردعه، لا عن الفساد المتفشى باعتباره أمرًا واقعًا لا فكاك منه، وأصبح مفهوم «حقوق المواطنين» يكتسب قيمته مجددًا بعد عقود طويلة من التجاهل والإنكار والإهدار، الأمر الذى يؤكد أننا أمام عهد جديد من سيادة القانون والنظام.. يا رب.. آمين.