ذكرنا فى المقال السابق أن من أسس التفكير الدينى الصحيح الذى ينبغى الالتفات إليها والتوعية بها على سبيل التجديد والرجوع بالشىء إلى أصله – مراعاة سنن الله تعالى فى الكون والإنسان والاجتماع والتاريخ، وأن تجاوزها وعدم الاعتناء بها يدعو إلى التخبط مع النفس والصراع مع الغير والصدام مع معطيات الكون ومفرداته، وسنرجع بشىء من التفصيل فى الكلام عن تلك السنن ومدى حاجة التفكير والخطاب الدينى إليها فى صياغة عقل الإنسان فضلا عن المسلم الذى يعتنى بنور العقل بما لا يخالف الشرع.
ومن الأسس التى لا تقل أهمية عن السنن الربانية فى تشكيل العقل بل والوجدان البشرى ما يمكن أن نسميه "منظومة القيم" التى تحكم الإطار الروحى والأخلاقى فى حركة الإنسان وسلوكه تجاه أخيه الإنسان بل تجاه الكون كله.
إنه من المقرر عقلا وشرعا أن غاية الديانات كلها تدعو إلى التخلى عن كل خُلُق دَنِى والتحلى بكل خُلُق سَنِيٍّ، حتى إن النبى محمدا صلى الله عليه وسلم قد بيَّن ذلك حين لخص الهدف من بعثته الشريفة فقال: "إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق"( رواه أحمد والبخارى فى الأدب المفرد )، وفى رواية عند الإمام مالك رصى الله عنه: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"، ولذلك كان الدين كله خُلُقًا، بكل ما يندرج تحته من: عقائد، وعبادات، ومعاملات.
وقد يتبادر إلى أذهان البعض أن الأخلاق مرتبطة فحسب بالمعاملات لأنها متعلقة بالتعامل بين الناس، ولكن الحقيقة الراسخة أن العقيدة أيضا تحتاج إلى التحلى بالأخلاق حتى وإن كان محلها القلب؛ إذ أساس الأخلاق فى الواقع هو القلب والوجدان، وعقيدة بلا أخلاق - كالصدق والإخلاص مثلًا - هى عقدة خَرِبَة فاسدة، وهى ما نسميها بالنفاق، وهو أسوأ وأشد ضررًا على المجتمعات من الكفر والإلحاد، وهو ما حذرنا الله تعالى منه فى قوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[آل عمران: 167]، وأهل هذا النفاق هم فى الحقيقة قوم استفحل داؤهم ومرضت قلوبهم، قال عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[البقرة: 8 – 10] ولذلك كانت عقوبتهم يوم القيامة أشد من الكفار فقال سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)[النساء: 145]، وهؤلاء هم شرار الخلق فى كل زمان ومكان.
أما ارتباط العبادات بالأخلاق فهو مما نصت عليه نصوص الشرع وتواترت على معناه، بل لم تعتبر العبادة ولم تُعَدَّ مقبولة إذا لم تكتنفها الأخلاق، فقال تعالى فى شعيرة الحج: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ)[البقرة: 197]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه"( أخرجه البخارى ومسلم )، وفى عبادة الصوم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى امرؤ صائم"( أخرجه البخارى )، بل جعل الشرع الشريف التخلى عن الأخلاق المذمومة هو غاية الصلاة الصحيحة المقبولة والمطلوبة من العبد فى قيامه لربه، فقال سبحانه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45]. وبمفهوم المخالفة فإن من لم تنهه الصلاة عن تلك الرذائل لم يكن فى صلاة بالمضمون والمعنى وإن أدَّاها فى الشكل والمبنى، وهو ما نص عليه الحديث الشريف: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له"(أخرجه ابن أبى حاتم)، بل إذا لم تنتج الصلاة الأخلاق الحسنة أدَّتْ إلى نقيض المقصود منها، فقد ورد فى الحديث: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إلا بُعْدًا"(أخرجه الطبرانى). ولذلك قيل: أداء الصلاة غير إقامة الصلاة، فالأداء صورة والإقامة حقيقة. وقيل: الأداء نَصْب القدمين والإقامة خشوع القلب.
وحين تنفصل الأخلاق عن العبادة، ويستمر الوضع على ذلك مدة من الزمن، يصير القائم بتلك العبادة مريض القلب ومعوج الفكر ومعتل العقل، فيتسرب إلى نفسه حتى يتمكن منها حُبُّ الظهور وإيثار الهوى ورؤية النفس دون الآخرين، فيصبح أداة هدم لمن حوله بدل أن يكون نبراسًا للبناء، ولمرضه المستحكم يظن أنه يحسن صنعًا.
ومن جراء انفصال الأخلاق عن العبادة نتج كائن مشوه، يدعى الفضيلة والالتزام وقد أُشْرِبَ قلبه حب الذات وكراهية الآخر؛ بل والاعتداء عليه، وصولا لامتهان الكرامة وانتهاك الحقوق ولإراقة الدماء، وظهر ذلك جليًّا فى فرقة الخوارج، التى ابتُلِى بها المسلمون فى كل زمان ومكان، حتى خرج علينا خوارج هذا العصر، الذين شوهوا الدين السمح داخل البلاد وخارجها، ومزقوا الأمة واستباحوا دماء الإنسان، ولم يَسْلَم منهم حتى من كان على ملتهم من بنى الإسلام، ولا غرو فقد بيَّن لنا النبى صلى الله عليه وسلم هذا المرض وهؤلاء المرضى، فقال: "يأتى فى آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم "(أخرجه البخارى)، وزادهم وصفًا فقال: "يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ"، وبعد هذا التلبيس منهم يكشف صلى الله عليه وسلم عن أخطر نتائج مرضهم وتدليسهم، فيقول: " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ".
إن إقامة العبادات فى الأصل هى لله، ولكن المطلوب منها مع العبودية أن تنتج أخلاقًا تظهر على صاحبها ويستفيد منها خَلق الله؛ ليسعد الإنسان فى ذاته ويتعايش بالخُلُق الحسن فيسعد غيره، وذلك مطمح كل عاقل فى الدنيا والآخرة. ولذلك فصلاةٌ بلا أخلاق كالحرث فى البحر، وصلاة بأخلاق مدعاة لكل فخر.