أنعشت أزمة توريد القمح المشتعلة حاليا ــ مابين وزارة التموين ،ممثلة فى هيئة السلع التموينية ،ووزارة الزراعة ،ممثلة فى الحجر الزراعى ، والموردين العالميين الـ 6 للقمح فى العالم ــ ذاكرتى من جديد ، وبدأتُ فى استعادة شريط مشاهد وقوف المزارعين المصريين ــ لأيام وليس لساعات ــ بقمحهم المحمول على السيارات النقل والنصف نقل والربع نقل والتريسكلات ، أمام شون بنك التنمية والائتمان الزراعى ، والمطاحن فى هجير الصيف، وهم يستغيثون ونحن معهم كصحافة وإعلام ولا مغيث لنا و لهم، ينتظرون أن يمُن عليهم موظفو الشون والبنك الزراعى والمطاحن باستلام القمح منهم، والكارثة أنه بعد هذه البهدلة للفلاحين الغلابة يتم استلام القمح منهم بسعر 420 جنيها للأردب ، وبحسبة بسيطة نجد أن الحكومة التى تفترى على الفلاح بإراقة ماء وجهه خلال تسليم قمحه ،تتعمد مضاعفة آلامه مرتين ، مرّة عند إهانته خلال عمليات تسليم القمح ووقوفه فى طابور طويل ، والمرّة الثانية عندما تتسلّم منه القمح المحلى النقى الممتاز بهذا السعر المُتدنّى ،مقارنة بما تفعله الحكومة حاليا مع القمح المستور الذى تشتريه بسعر ١٧٩,٣٢ دولارا للطن، وعن طريق إعلانات ومناقصات وموردين وزفّه طويلة عريضة.
هذه الأزمة التى لا يلوح لها فى الأفق القريب حل حتى هذه اللحظة ،لم تنعش ذاكرتى بعمليات توريد القمح المحلى ،وبهدلة المزارعين والفلاح المصرى فقط، بل أعادتنى لتراثنا العربى والشعبى فى طلب المستحيلات ، ووجدتنى فى مواجهة وزارة الزراعة ، وتعنتها فى طلب قمح من الخارج ،تصل فيه درجة النظافة من فطر ومرض الإرجوت صفرا ،أردد المثل والقاعدة الشرعية الشهيرة ( إذا أردت أن تُطاع ، فأمر بما هو مُستطاع ) ، فوزارة الزراعة التى تعلم ــ قبل غيرها ــ علم اليقين أن الاتفاقيات والمواثيق الدولية ،وخاصة الزراعية والاقتصادية منها ، والتى وافقت عليها مصر، تؤكد أن نسبة المسموح به من فطر الإرجوت فى القمح المستورد هى 0،05 % ، ( خمسة فى الألف ) وأن درجة النقاوة "صفر" التى تريدها وزارة الزراعة فى القمح المستورد، وخلوه من فطر الإرجوت، تدخل فى طلب المستحيلات ، وهى أشبه بقول الشاعر العربى القائل :- ( لمّا رأيتُ بَنى الزّمانِ وما بهِم خلٌّ وفيٌّ للشدائدِ أصطفى * أيقنتُ أنّ المستحيلَ ثلاثة: الغُولُ والعَنقاءُ والخِلّ الوَفى ) ، إذن الزراعة فى تشددها هذا تطلب مستحيلا من تلك المستحيلات.
الكلمات تلك ،وهذا الرأى ،فى مواجهة تعنت وزارة الزراعة والحجر الزراعى لا يعنى أبدا أننا ضد حماية زراعاتنا المحلية ،وخاصة القمح من الأمراض الوافدة، بل إننا مع كل إجراء يحمى حاصلاتنا وزراعاتنا وإنتاجنا من خطر الأمراض التى قد تأتينا مع المنتجات الزراعية المستوردة،ولكن لابد أن يتم ذلك بالعقل والمنطق ومن خلال تطبيق القوانين والمعاهدات والمواثيق التى قمنا كحكومة بالتوقيع عليها، كما يجب أن يكون فى الحسبان،أننا لسنا مستوردين فقط ، بل لدينا منتجات زراعية يتم تصديرها للخارج ،ونصاب بالضرر المادى والمعنوى الكبيرين ،ونحزن عندما تطالعنا الأنباء برفض بعض الدول العربية أو الأجنبية لمنتجاتنا سواء كانت خضروات أو فاكهة أو غيرهما، بدعوى مخالفتها للمواصفات القياسية الصحية أو البيئية أو الزراعية،خاصة وأن صادراتنا من المنتجات الزراعية تمثل دعامة هامة للاقتصاد المصرى ، وقد تجاوزت قيمة هذه الصادرات 2.158 مليار دولار،حسب آخر تقرير صادر عن المجلس التصديري للحاصلات الزراعية.
أزمة توريد القمح تلفت نظرنا أيضا ،لعدم التسرع فى اتخاذ القرارات التى قد تأتى بضرر كبير علينا حكومة وشعبا، بل لابد من دراسة مثل هذه القرارات بتأنٍ وروية،لأن التجارة والمصالح الدولية المتشابكة ليست فرد عضلات وتصريحات عنترية ثم نقع فى المشاكل والأزمات بعد ذلك ، علما بإن الوضع الحالى ،و هذه الأزمة هى تجسيد حى على التسرع والعشوائية فى اتخاذ القرار ،فنحن نحتاج إلى القمح لقرب نهاية المخزون الاستراتيجى منه أواخر شهر أكتوبر القادم، وفى نفس الوقت نحن مصدرين ومستوردين، كما أن لدينا مشاكل فى توفير العملات الصعبة ،ولسنا فى ترف للإسراف فى فتح خطابات الضمان و الاعتمادات المستندية للاستيراد بالدولار، وهذه أمور لابد أن يوازنها ويناقشها متخذ القرار ،قبل أن يتخذ قراره ثم يشعل الدنيا من حولنا ويذهب ليستريح ، ويستيقظ المواطن المصرى يوما فيجد أزمة فى رغيف الخبز ، أو يجد صادراتنا تعود إلينا مرّة أخرى مشفوعة بشهادة رفض وعدم صلاحية للاستهلاك الآدمى ،لا لشىء سوى أن البيه المسئول اتخذ القرار وهو نائم.