على بساط الطبيعة الساحرة التى تتسم بموازيك مغربى خالص يختلط بنكهة أوربية خاطفة للعين والقلب فى مدينة طنجة، تستطيع أن تلمس نبض الحياة السياسية المغربية بتناقضاتها الكبرى عن قرب، فرغم ما يعترى بعض الصحف الصباحية من انتقادات لاذعة لوالى المدينة الساحلية الذى أضاع حلم "طنجة الكبرى" ملتقى البحور (حيث يختلط فيها ماء البحر المتوسط بالمحيط الأطلسى) على حد تقدير المراقبين وسكان المدينة السياحية بامتياز.
الشوارع لا تنبئ بشكل صارخ عن حجم الكارثة التى يتحدث عنها اليسار المعارض بخصوص أزمة القمامة ودخان النفايات، فلا يمكن أن تشعر بذلك فى أثناء تجوالك بالشوارع المسكونة بالبهجة، رغم ما تقرأه من انتقادات حادة على صفحات الجرائد جراء السباق نحو الانتخابات البرلمانية المستحقة فى السابع من أكتوبر القادم، فالحلبة تشهد حالة من الغليان من جانب الأحزاب المنافسة لـ"العدالة والتنمية" الحزب الحاكم، والداعم بقوة لأمينة العام رئيس الوزراء "عبد الإله بنكيران".
لا تخلو الصحف الصباحية الورقية والإلكترونية على السواء من حديث تحريضى يومى ضد "بنكيران" ووصفه بالأسوأ منذ حكومة "البكاى بن مبارك"، وهى أول حكومة فى المغرب بعد استقلاله عن فرنسا سنة 1955، فلا يمكن أن تسأل مواطن مغربى عن أداء رئيس وزرائه، إلا وينال الرجل الإخوانى قسط من النقد اللاذع جراء تصرفاته اليومية المتناقضة، ووعوده التى لا تراعى الوطن والمواطن تحت ظرف اقتصادى صعب للغاية.
"بن كيران" يقع بين فكى رحى خلال هذه الأيام، جراء لعبة الانتخابات البرلمانية التى يرى فيها كثيرون نوعا من التهدد لمستقبله السياسى، بينما لاحظت بنفسى أن هناك انحيازا واضحا لدى قطاع كبير من الشارع لحزبه "العدالة والتنمية" وقد لمست ذلك عن قرب عندما كنت أسأل بعض المواطنين عن مواقفهم الانتخابية فيردون بلا تردد: نحن نؤيد حزب رئيس الوزراء، رغم أن الأحزاب اليسارية وعلى رأسها "الاتحاد الاشتراكى" تراه قد أخفق فى وعوده التى قطعها على نفسه قبل خمس سنوات من استحقاقات دستورية ومعيشية ملحة، وحتى بعض الأحزاب الاسلامية المساندة له تراه قد استنفد طاقته فى قضايا خلافية أبعدته عن إنجاز المهام.
صحيح أن بنكيران كان صادقا عندما اعترف علنية فى حملته الانتخابية عام 2011 بضعفه وعدم قدرته على تحقيق التنمية فى البلاد، وقد قال قولته الشهيرة "إن الحزب لا يفهم كثيرا فى أمور الاقتصاد"، لكن تبقى المسئولية ملقاة على عاتقه فى فشل حكومته بتحقيق الخدمة والحفاظ على التماسك المجتمعى، ورفع المعاناة عن الشعب الذى منحه الثقة فى الإمساك بدفة الأمور، فى بلد أفلت من زمام مؤامرات الربيع العربى التى عصف ببعض دول الشرق، وماتزال آثاره الوخيمة تلقى بتبعاتها على تلك الدول، خاصة على ليبيا التى ربما تلقى بظلال وخيمة تزحف نحو الرباط، تحت وطأة "داعش" التى تلقى مساندة من أمريكا والغرب، وفى القلب منها التنظيم الدولى الذى ينتمى له بنكيران بحكم الضرورة.
ولعل شيئا من هذا القبيل حذر منه بشكل غير مباشر معارضه الشرس الكاتب الصحفى والإعلامى "رشيد نيني" الذى قال "إن بنكيران حول المغرب إلى مزبلة أوروبا بشكل غير مسبوق، وفعل هو ووزيره "إعمارة" كما تفعل النعامة لتجنب الفضائح، لكن الفرق بينهما والنعامة أنها تطمس رأسها فى الرمل، فيما "بنكيران وإعمارة" دسا رأسيهما فى سطل قمامة"، والنينى هنا يقصد تهديد بنكيران الشعب المغربى بأنه فى حالة عدم فوزه بالمرتبة الأولى فى انتخابات 7 أكتوبر، فإن الأمر بالنسبة إليه سيشبه إنقلابا أبيض، ما يعنى أن أتباعه سيخرجون للشوارع وتحويلها لبؤر توتر حقيقية، وهنا تبدو إشارة غير المباشرة إلى أن ما يحدث فى ليبيا يلقى بظلال خفيفة - حتى الآن – على المشهد السياسى المغربى.
ورغم هذا السجال المحتدم على صفحات الجرائد وبعض محطات "التلفزة" المغربية بشأن الانتخابات البرلمانية، إلا أنها جل اهتمامها لا ينشغل بالهم العام كما هو حال المحطات الفضائية المصرية، ويبدو ذلك جليا عندما تلقى وجوه عابسة فى الصباح، سرعان ما تتحول تدريجيا نحو حافة التفاؤل فى نهاية يوم مثقل بالتعب، عبر برامج تليفزيونية تعنى كثيرا بقضايا الثقافة والفن والغناء الذى يبعث على الشجن، ومن ثمن فلا تبدو الحياة كئيبة ثقيلة على كاهل المواطن المغربى، رغم ارتفاع الأسعار وأزمات التعليم والصحة والاقتصاد المتراجع، وكلها معضلات لايمكن أن يتعافى منها المغاربة بفعل سياسات حكومة يسمونها بالرجيمة.
لفت نظرى أكثر أن المشكلات التى تتصدر الصحف لا تبدو بنفس تلك الحدة التى نعيشها فى مصر الآن، وربما تكون المقارنة ظالمة، فلا يمكن أن تكون هموم ومشاكل أكثر من ٩٣ مليون مصرى تماثل هموم ومشاكل ٣٤ مليون مغربى، رغم العوز الشديد والحاجة الملحة وضعف مستوى التعليم فى ظل أكبر معدل للأمية فى العالم العربى، وربما كان أيضا مجموع ماتوزعه كافة الصحف المغربية اليومية مالا يزيد عن 300 ألف نسخة، فلا يمكن أن يقارن بتوزيع هذا الرقم لصحيفة مصرية واحدة، لكن يظل المواطن المغربى هو الرقم الصعب فى معادلة تماسك بلاده، حيث يختفى مصطلح "الفرقة" وتبقى اللحمة الوطنية شعارا عاليا تحت جناح الملك محمد السادس، ففى قلب أشرس المعارك السياسية، ينمو شعور جارف بالمسئولية تجاه الأمن القومى لهذا البلد، رغم أنه محكوم بفصيل من التنظيم الدولى لجماعة الإخوان الإرهابية.
تلك هى النقطة الجوهرية التى يمكن أن تلمسها فى أى حديث فى الشأن العام من جانب أى مواطن مغربى، فعلى الرغم من أنه ذاق مرارات الاستعمار التى توالت على بلاده، وتركت آثرا سلبية على الثقافة واللغة، لكن يظل شعورا خفيا يجرفه نحو جادة الصواب، وفى قلب الأزمات الحادة يتولد إحساس فطرى يوقف أخطار امتداد أصابع المؤامرات الدولية المتشحة بثوب حقوق الانسان، على العكس تماما من إحساس مواطن مصرى يرى فى تدخل الغرب فى شئون بلاده - بحجة دعم حقوقه الإنسان المدفوعة بالدولار - ميزة عظيمة، كما يرى فى التشدق بمزاعم الغرب عن الديمقراطية المسمومة فضيلة ينبغى أن نتحلى بها جميعا، وهو ما يروج له بعض إعلامينا فى فضاء مهرجان الفوضى اليومى التى تمتد حتى الساعات الأولى من الصباح.. تلك هى آفة مصر الكبرى للأسف.