أرجو أن تغمرنى طيبته الصالحة، وأن تسامحنى روحه فى تحريف اسم روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السودانى الطيب صالح، ليصلح عنوانا للمقال، فرغم مرور خمسون عاما على الرواية إلا أن "الشمال" كان ومازال حلم أهل أى "جنوب".
ملتفة بجلباب أسود، والخمار المصرى الشهير ينسدل على ذراعيها تصرخ، وتذرف دموعها الحارة على الشاطئ لتختلط بملح ماء البحر الذى ذابت فيه ملامح ابنها، أُم تشبه ملايين الأمهات المصريات ترتمى على جثمان ابنها تنتحب فقد وليدها الصغير فى عينيها، حتى وإن كان رجلا مكتملا محشورا داخل كيس بلاستيك أسود، اعتادت أن تراه مُمددا أمامها كثيرا، وكانت كعادة الأمهات تعنفه طويلا ليصحو من رقدته، ولكنها أدركت بعد أن رأت وجهه مطلا من فتحة صغيرة فى نعشه الأسود المؤقت أن تلك الرقدة لا قيام منها، كانت الرقدة الأخيرة، لم تتخيل يوما أن تتبدد أحلامها فى ابن العمر، كانت تنتظر كأى أم أن تتبدل رقدته تلك بجلسة معتدلة إلى جوار عروسه فى يوم العمر قبل أن يختطف عمره قارب الموت.
بخمارها وجلبابها الأسود كان الشبه كبيرا بينها وبين أمى، منذ سنوات وقفت مثلها أمى على الشاطئ تنتظر جثمانى يسير على قدمين بعد محاولة فاشلة منى للموت غرقا، لا أجيد السباحة، والبحر دوما يغرينى بالاقتراب أكثر حتى أصل إلى نقطة أعمق مما احتمل، غمرتنى المياه لحظات، أدركت أنى سأفتقد أمى كثيرا، ولكن كان لا يزال فى العمر بقية، تذكرت قول محمود درويش "أعشق عمرى لأنى إذا مت أخجل من دمع أمى" حمدت الله أنى لم أمت، فكيف تحتمل أمى أن تعود من أجازة مصيفية كانت ترجوها سعيدة بجثمان ابنتها، بعد حادث مركب رشيد حمدت الله ثانية أنى لم أمت يومها غرقا، صحيح أن يومها لم يكن سيأتى جنازتى من يلوم أمى على موتى، أو من يطالب بتقديمها للمحاكمة لأنها فشلت فى إبقائى إلى جوارها على الشاطئ لأنى لا أجيد السباحة، لن يأتى من يطالب برأسى ثانية لأنى أزعجته بموتى، فلو حدث هذا لكنت استأذنت ربى أن أخرج من نعشى أصفع من يجرؤ على لوم أمى بدل مواساتها، وقتها لم نكن قد وصلنا بعد لهذا القدر من اللا إنسانية المفرطة، نلوم الضحية أنها ماتت، ونعلق المشانق للموتى، ونطالب بمحاكمة أهاليهم.
البقاء لله.. هكذا تعلمت أن أعلق باقتضاب إذا حضر الموت لا نملك إلا أن نذكر أنفسنا أنه لا دائم إلا وجه الله تعالى، نهمس بها لأهل الراحل علنا نخفف عنهم بها وجع البعاد، وألم الرحيل.
البقاء لله.. جميعنا يعلم تلك الحقيقة، ندرك أنه لا دائم إلا هو نقولها تذكرة لمن نقدم لهم واجب العزاء، أن الله قد استرد أمانته لا أكثر، مع حفظ حقهم فى الحزن فندعو بالرحمة لمن رحل، وبالصبر لمن بقى، هذا ما أعرفه عن الموت، أما لوم الموتى ومحاججة من مات فى رحيله، وتحميل من ماتوا أسباب موتهم، وكأن الموت خطيئتهم الكبرى فيجب أن نسارع فنحاسبهم عليها قبل أن يُواروا الثرى، ويحاسبهم الخالق، نعم هذا ما تسابق إليه البعض بعد حادث غرق مركب رشيد، لم أفهم...
-كيف نجرؤ على لوم جثث لم توارى الثرى بعد؟
-كيف نجرؤ أن نبرر موتهم بأنهم أغبياء لم يبحثوا عن فرصة استثمار بدلا من الهجرة؟
-كيف نجرؤ على سب أهاليهم لأنهم لم يحسنوا تربيتهم على ثقافة القطيع التى يجب ألا يخرجوا عنها "عيش عيشة أهلك"؟
-كيف نجرؤ أن نطالب بمحاكمة الأهل بدلا من محاكمة من سمح بوجود مثل تلك المراكب؟
-كيف نجرؤ أن نلوم أم على موت ابنها؟
-كيف نجرؤ أن نبكى الطفل إيلان على شواطئ أوربا، وتتحجر دموعنا على أطفال أكل ملح البحر ملامحهم على شواطئنا؟
فى حضرة الموت لا نمتلك إلا الصمت العاجز أو البكاء الغاضب لا خيارات أخرى، من يتهمون الضحايا بالتكاسل، ويتسائلون مستنكرين لماذا لم يستثمروا أموال السفر فى مشروع يبدأون به حياتهم؟ إذا اعتبرت أن بضعة آلاف سيتم دفعها فى الغالب بالتقسيط هى رأس مال لمشروع استثمارى عظيم، فهل وفرت الدولة تعليم حقيقى يمنح هؤلاء الشباب أفكارا خارج الصندوق كما تريدهم أن يفعلوا، فكل شىء يبدأ من التعليم، تتهم هؤلاء الشباب بالجهل والتكاسل والبحث عن الثراء السريع رغم أنهم لا يبحثون إلا عن فرصة عمل توفر لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة أى عمل بلا شروط، تطالب بمحاكمة أهاليهم لأنهم باركوا سفر أبنائهم رغم أنهم لم يفعلوا إلا لأن المصرى لا يرميه على المر إلا اللى أمر منه، لكن من يلوم القتيل، وأهله من أين يعرف المر أو طعمه حتى يرثى لهم، حتى يصمت احتراما لجلال الموت وهيبته، حتى يطالب بتغيير ظروف تحيط بالمجتمع، وتخنق فقرائه.
لم يدرك من يلومون الضحية أن قدرة الإنسان النفسية على مقاومة الإحباط، والانكسارات متفاوتة، البعض لديه القدرة على المواجهة، والمعافرة فى الدنيا، والبعض يفضل الانتحار، وآخرون يعتبرون الهرب آخر وسائل النجاة حتى لو كان شكلا آخر للانتحار، قبل أن نوجه سهام النقد للضحايا، من الأولى أن نبحث عن الأسباب التى دفعت أب ليقذف بنفسه وأسرته فى مركب أملا فى الهجرة إلى الشمال فى تطور جديد لليأس، ربما نحن يئسون الآن أكثر مما مضى، فالإحباط يكون على قدر الأحلام الضائعة، فبعد تبدد الأحلام الكبرى يأتى الإحباط وحشا يسقط أمامه الجميع، يعترفون بالهزيمة ويتعايشون مع الواقع بالتجاهل، بالانطواء، أو أمل الحياة الأخرى ما دمنا لم نوفق فى الحياة الدنيا، فهناك حياة أخرى أبدية تنتظرنا، لذلك خاطر الجميع أملا فى حياة حقيقية أو الفوز بالحياة الأبدية.
البقاء لله...