رغم أن النظام العالمى بعد الحرب العالمية الثانية وضِع بهدف تفادى وقوع حرب ثالثة، ورغم استبعاد الكثيرين لاحتمال اندلاع هذه الحرب استنادا إلى التفاهم والتواصل القائم والمستمر بين موسكو وواشنطن، رغم الخلافات والمشاكل بينهما، كما أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الآن أفضل بكثير مما كانت عليه فى زمن الحرب الباردة، ورغم الأزمات الاقتصادية التى تعم العالم كله، والتى تحول دون التفكير فى حرب كبيرة تدمر الاقتصاد العالمى الذى بات متصلا ومترابطا بين جميع دول وقارات العالم، رغم كل هذا إلا أن فى روسيا لا يستبعدون هذه الحرب، بل يتوقعونها ويستعدون لها، وما المناورات والتدريبات العسكرية المكثفة التى تقوم بها مختلف أفرع القوات المسلحة الروسية، والتى تجاوزت الألفين مناورة وتدريب على مدى الأعوام الخمسة الماضية، إلا انعكاس لحالة الاستعداد المستمرة فى روسيا لقدوم هذه الحرب.
تصريحات رجال السياسة والعسكريين فى الولايات المتحدة وبريطانيا بالتحديد، على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كلها تجمع أن روسيا تشكل أكبر تهديد للأمن والسلام العالمى، وهو ما قاله وأكده الرئيس الأميركى أوباما أكثر من مرة عندما اعتبر روسيا أخطر من "داعش" ومن الإرهاب الدولى، وقالها رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون أكثر من مرة، وها هى خليفته تيريزا ماى تقول نفس الكلام، ورغم أن هذه التصريحات المتكررة ضد روسيا لا تجد أى صدى لدى الدول الأخرى، خاصة لدى دول أوروبا الكبيرة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرهم، ورغم قناعة شعوب العالم، بما فيهما الشعبين الأمريكى والبريطانى بأن روسيا لا تشكل أى تهديد لأمن بلادهما وللعالم، إلا أن التصريحات لا تتوقف، وحلف الناتو لا يتوقف عن تحريض دول شرق أوروبا الصغيرة ضد روسيا وتخويفهم منها بأنها تسعى لاحتلالهم.
روسيا دولة مسالمة لا تسعى للحروب، ولا مصلحة لها فى أى نزاعات فى العالم، لكنها تعلم أن قرارات الحروب الكبيرة التى يصنعها الغرب لا يضعها الساسة والقادة العسكريون، بل يضعها لوبى صناعة الحروب والسلاح، هذا اللوبى الذى يصنع الرؤساء والقادة السياسيين والعسكريين فى واشنطن ولندن ويوجههم كيفما يشاء، هذا اللوبى الذى حول الرئيس أوباما، بعد حصوله على جائزة نوبل لتقاربه مع روسيا، إلى عدو لروسيا يعتبرها أخطر من داعش والإرهاب، علماً بأن هذا التصريح صدر عن أوباما قبل التدخل العسكرى الروسى فى سوريا، هذا اللوبى صانع الحروب الذى تراجعت مكاسبه من تجارة السلاح بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وتراجع التهديدات التى كانت قائمة بفعل الدعاية الغربية ضد الخطر الشيوعى الأحمر فى زمن الحرب الباردة، ولم تنجح الحرب على الإرهاب، والتى ابتدعها هذا اللوبى وروج لها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، فى تحقيق المكاسب التى كان يحققها تجار السلاح والحروب فى زمن الحرب الباردة.
الآن تدق واشنطن وحلف الناتو ولندن طبول الحرب فى أوروبا، وتتحرك فى الدول المجاورة لروسيا، مثل بولندا ورومانيا ودول البلطيق الثلاثة "أستونيا ولاتفيا وليتوانيا" وكذلك فى أوكرانيا وجورجيا، ومتوقع دول أخرى قريبا، ورغم عدم وجود صدى لهذه الطبول لدى الدول الأخرى فى أوروبا والقارات الأخرى، ورغم استبعاد الجميع لاندلاع حرب فى أوروبا، إلا أن موسكو تتعامل مع الأمور بشكل آخر، وتتوقع تطورات وتصعيدات واستفزازات عند حدودها الغربية لا تستطيع الصمت عليها، كما تتوقع أن تصل الاستفزازات إلى حد الصدام، وهو الأسلوب الذى تستخدمه واشنطن وأيضاً لندن، فى دفع دول صغيرة للتحرش بروسيا، وهذا ما سبق أن فعلاه فى جورجيا عام 2008، وفى أوكرانيا عام 2014، والآن يستعد حلف الناتو وواشنطن لنشر بطاريات الصواريخ الدفاعية فى أراضى الدول المجاورة لروسيا، وستوجه نحو روسيا، وليس من المستبعد الإقدام على أى حماقات استفزازية بهدف جر روسيا لحرب فى أوروبا يستعيد بها لوبى السلاح والحروب فى الولايات المتحدة وبريطانيا نفوذه وهيمنته على القارة العجوز الأم التى بات البساط فيها ينسحب بوضوح من تحت أقدام لندن وواشنطن.
رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزى منذ أيام حذر من تصاعد أصوات قعقعة الحروب فى أوروبا ضد روسيا، ومن قبله حذر أيضا منها وزير خارجية ألمانيا فرانك شتاينماير، وموسكو لا تستبعد الحرب وتستعد لها على أعلى مستوى ، ولوبى الحروب وتجارة السلاح فى واشنطن ولندن لا يرى سبيل لعودة هيمنته ونفوذه على العالم ورواج تجارته، إلا بحرب كبيرة جديدة تقسم العالم من جديد.