إن مشكلة الثنائيات في التفكير تنتج بمحض العقل وعلم المنطق أربعة احتمالات أو تطبيقات على وجه الحصر، ويتفاوت الناس، صوابا وخطأً أو استقامة وانحرافا، بحسب التعلق والأخذ بما يفيد منها، ، وفي الوقت ذاته قد يتصارع الآخذ بأحد أوجهها مع غيره ممن يعتقد أو يعمل بأحد هذه الوجوه الأربعة، وهي مع كونها أربعة نتائج إلا أنه ليس لها سوى طرفين فقط، فهو إما أن يعمل بأحد طرفيها، فينتج فكرا وفقها وخطابا أعور، خاصة إذا كان الطرفان صالحين ونافعين لخيره ولخير غيره، أو قد يترك أحدٌ كلا الطرفين فيكون في دائرة التيه والضياع واليأس والتخلف، سواء أكان ذلك التارك فردا طبيعيًّا أم اعتباريًّا، بمعنى آخر : سواءأكان فردًا أو مؤسسة أو دولة، وهناك قسم رابع يرى أن عوامل البناء والنجاح أو مصادر الخير والنفع تتكامل ولا تتعارض وتتسق ولا تفترق، فيتعاملون بقاعدة أهل أصول الفقه هنا، وهي " أن الجمع بينهما أولى "، كما يجمعون بين الأدلة التي ظاهرها التعارض وحقيقتها التوافق والتعاضد، أو يتعاملون بقاعدة أهل التربية والسلوك : " الأنوار لا تتزاحم " .
وإذا أردنا تطبيق ما قلناه على ثنائية : " التوكل والأخذ بالأسباب " فسنجد أن النادر من الناس من يغمض عينيه عن الأخذ بأيٍّ منهما، فيكون والعياذ بالله في عَمَاء، وهذا لا يُعَدُّ من الأحياء فضلًا عن أن يكون من البشر .
وهناك فريق ينظر إلى طرفي القضية أو المسألة بعين عوراءفيأخذ بأحد الطرفين ويجحد أو يتعامى عن الآخر، فنجد المتواكلين وليس المتوكلين، ذلكم الذين يؤثرون الراحة والدعة والكسل، فيتركون الأخذ بالأسباب ويتجرؤون في ما يذهبون إليه ويطلقون أنهم على قدم التوكل على الله تعالى، وهؤلاء قد أخذوا بحظ وافر من الجهل وسوء العمل، وأكثر من ينطبق عليهم ذلك من نراهم من ذوي التدين الشكلي ودعاة البطالة عن الجِدِّ والعمل، الذين أفرخوا بعد ذلك جيلًا من دعاة الفتنة وحمل السلاح على أهل الملة والوطن، تلك الجماعات التي ضلَّت الطريق باسم الدين : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف : 104] .
وفي المقابل نجد فريقا آخر لا يرى الكون كله إلا بعين واحدة، فيأخذ بالأسباب وحدها مع جحد قيمة تعلق القلب بالرب في كل سير ودرب، وهؤلاء أرباب النفعية المادية، الذين أنتجوا بعد ذلك تقدُّمًا وتطورًا، ولكنه منزوع القيم والأخلاق، إذ لا مهيمن على عقله وقلبه شيء سوى رؤية نفسه وما بين يديه، وغاب عنه قدرة خالق الكون وعدله في الدنيا وفي يوم لا ظل فيه إلا ظله، أولئك قد : (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[التوبة : 67] .
والفريق الرابع هم من نظروا إلى الكون والحياة بعين الأخذ بالأسباب والعين الأخرى ناظرة إلى خالق تلك الأسباب، فتعاملوا بجوارحهم مع ما بين أيديهم، وتعلقت قلوبهم بباريهم، فجمعوا بين الخيرين، وتقدموا بدنياهم وبنوا حضارتهم وأسعدوا أنفسهم وشاركهم في تلك السعادة غيرهم، وهؤلاء أدركوا وتيقنوا وورِثُوا وورَّثُوا أن : " ترك الأسباب وعدم العمل بها جهل وتخلف وانهزام وتبعية، والاعنماد عليها وحدها ابتعاد عن توحيد الله، والأخذ بها مع ركون القلب إلى الله نجاح وفلاح، وتحقيق لِما خلقنا الله من أجله : عبادة الرب، وتزكة النفس، وعمارة الكون " .
وبهذا الفهم المستقيم المستنير جمعوا بين أدلة القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية مع ما يقتضيه العقل الصحيح والمنطق المليح، يقول الله تعالى في الحث على الأخذ بالأسباب : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك : 15]، ويقول سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)[الأنفال : 50]، ويقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)[النساء : 71]، ويقول صلى الله عليه وسلم : "إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا "[رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد] . وفي جانب التوكل على الله يقول عز وجل : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)[الفرقان : 58]، يقول عليه الصلاة والسلام : " لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا "[رواه التمذي والنسائي].
وخير شاهد على أن ذلك الجمع بين الأسباب والتوكل هو من سنة الله في الصالحين – ما حكاه القرآن الكريم في توجيه سيدنا يعقوب لإخوة يوسف عليهما السلام حين وجههم إلى مصر ومعهم أخوهم بنيامين ليلتقوا بيوسف فيها قبل أن يعرفوه، فقال لهم : (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[يوسف : 67] .
وهذا ما نجده في سيرة الأنبياء والمرسلين، وعند خاتمهم في : قصة الهجرة النبوية، وواقعة بدر وأُحُد والخندق وغيرها، وكذا نراها عند الخلفاء الراشدين والسلف الصالح والأئمة المتبوعين، وعند صلاح الدين في معركة حطين، ومع قطز وبيبرس ضد التتار، ونجده جليًّا في معركة الشرف والعبور والنصر لمصر ولكل العرب، في حرب السادس من أكتوبر سنة 1973م .
فذلك هو التفكير الصحيح الذي نريد أن نعود إليه جميعا، لنكون كما قال أسلافنا، وهو سهل بن عبد الله التستري، : (مَنْ طعن في الحركة - يعني في السعي والكسب - فقد طعن في السُّنَّة، ومن طعن في التوكل، فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والكسب سنته، فمن عمل على حاله، فلا يتركن سنته)[جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي]. .
ختامًا : فإن هذه الثنائية بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب هي حلقة متكاملة ورؤية شاملة، فلا نريد أعمى يغمض عينيه عنها ويتعداها، أو أعور ينظر إلى أحد طرفيها دون سواها، وإنما نريد من يرى بعينيه فتتحرك جوارحه للعمل، ويتعلق قلبه بالتوكل على الله مع حُسْنِ الظن والأمل .
ونحن أحوج ما نكون إلى الاتساق بين هذه الثنائية الآن، ضد ما يُحَاك لأمتنا ودولتنا في الداخل والخارج بقصد وبغير قصد .
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).