فى شهر أبريل القادم أكون قد أتممت 7 سنوات كاملة فى العمل بمهنة الصحافة، أعلم جيداً أنه تاريخ متواضع ولكنه منحنى خبرات لا بأس بها، وشغف للبحث عن كل ما قد يمد عمرى فى هذه المهنة لعام آخر، ولكن ما أعتز به حقاً هو ما تعلمته عن "الإنصات"، وما أدركته بعد سنوات، أن الرؤية لا يشكلها سوى الإنصات الجيد لجميع الأطراف، النزول عن أبراج الأحكام الصارمة لأرض الحوار، الصمت حينما لا يحتاج الأمر سوى النظر بتركيز، والتأمل بعناية، لهذه الأسباب اخترت الصبر عندما اختارنى رئيس تحرير جريدتى للمشاركة بالمؤتمر الوطنى الأول للشباب ضمن فريق عمل مختلف التوجهات من الجريدة، لم أكن أعلم تحديداً وقتها المغزى من ترشيحى، وأنا من دخلت الصحافة بشغف كتابة القصص الإنسانية والاجتماعية، ولا أملك خبرة كافية فى عالم السياسة الشرس.
اليوم الأول والأهم بالنسبة لى فى هذه الرحلة، هو يوم السفر من القاهرة إلى شرم الشيخ، لم أتلق دعوة من الرئاسة، فسافرت براً وسط مئات الشباب، ظروف قاسية، تنظيم يشوبه الكثير من الأخطاء، وكل من حولى شباب، هو من يمسكون بكشوف الأسماء، هم من ينظمون خروج الأتوبيسات، يتولون أمر الرحلة بالكامل، وكواحد من الأخطاء التى قذفت بى فى رحلة لم أكن أعلم بعد أهميتها، جاء اسمى فى المكان الخطأ، لم أصعد لأتوبيس الصحفيين، ووجدت نفسى وسط مجموعة من الفتيات من البرنامج الرئاسى الذى قضيت 10 ساعات كاملة أتعرف على تفاصيله منهن، اختفى الغضب تدريجياً عندما أدركت أن الخطأ فى كشف الأسماء قد أرسلنى للمكان الصحيح لألمس عن قرب إيمان بداخل هؤلاء الشباب بما يقومون به حقاً، قضيت الطريق الطويل فى ممارسة "الإنصات" بعناية، استمعت لمشروعات ضخمة وضعها هؤلاء الشباب على الورق، درسوا وبحثوا وحللوا، حتى خرجوا بنتائج قوية فى جميع المجالات لعرضها فى مؤتمر الشباب، بجانبى استقرت فتاة حدثتنى عن مشروعها لتطوير البحث العلمي، وأخرى من وضعت مشروعاً قوياً لدعم السياحة، وفى الكرسى المقابل كانت أخرى تتحدث بحماس شديد عن مشروع أعدته بالتعاون مع مجموعة أخرى عن حلول للوضع الاقتصادى، مئات الموضوعات التى أنصت إليها بصبر وإعجاب، أدركت تماماً وقت الوصول أن المؤتمر الذى ستنطلق فعالياته بعد ساعات، ليس مجرد "مسرحية هزلية" كما كنت أتصور، وأن هذا العنوان "المؤتمر الوطنى الأول للشباب" هو بوابة أمل ينتظرها الشباب، ويعدون لها العدة منذ ما يقرب من عام كامل.
ثلاثة أيام متواصلة هى المدة التى قضيتها فى المؤتمر، أنصت، أتابع، ولا أكف عن الانبهار بما تمكن آلاف الشباب من إنجازه فى فترة وجيزة، يتناثرون كالذباب وسط حشد عظيم من الوزراء، وكبار رجال الدولة وساستها، نواب البرلمان، الإعلاميون، والشخصيات العامة، يرتدون شارات تشير للبرنامج الرئاسي، يتنقلون بنشاط وحماس من ورشة عمل لأخرى، يعرضون مشاريعهم على كبار المسئولين فى الدولة بقوة وخبرة تثير الدهشة نسبة لأعمارهم التى تتراوح التى لم تتجاوز الثلاثون بعد، عن الصحة، التعليم، الوضع الاقتصادي، المشاركة السياسية، الحوار الوطني، والثقافة، وصولاً للورش الفنية وتنمية المواهب والقدرات فى الغناء والشعر، والابتكار.
انتقلت بدورى من ورشة لأخرى أتبعهم، لم أتخل عن "الإنصات" طوال مدة المؤتمر، ولكننى أضفت إليه المشاركة بالكثير من الأسئلة، حضرت ورش عمل فى كل المجالات التى طرحها المؤتمر للمناقشة، رأيت بعينى شباباً واعداً من طبقات اجتماعية مختلفة يشارك بقوة على منصات الحوار جنباً إلى جنب مع الوزراء والسياسيين، وكبار رجال الدولة، يعرضون مشاريعهم أمام رئيس الدولة، الذى يكتفى بالابتسامات والإشادة والتشجيع والدعم، يرد عليهم بهدوء، يحرص دائماً على إبقائهم بقربه، يشد على أيديهم، ويمنحهم المزيد من الثقة، حتى وصلوا لتمام الاقتناع أن مهمة العبور بمصر من النفق المظلم هى مسئوليتهم الأولى، وأن الدولة برجالها وساستها ووزرائها ونواب برلمانها ومعارضيها وشعبها على اختلاف أطيافه، دورها هو الدعم والاحتواء لكل ما يخرج من تحت أيديهم من مشروعات حقيقية تنتظر التنفيذ.
رأيت شاباً يعرض مشروعاً عن تقييم السلامة لإنشاء محطة وقود نووي، يستمع لمشروعه وزير الكهرباء ويعرض عليه فرصة عمل فورية للاستفادة من مشروعه، مشهد تكرر أكثر من مرة حياً بالصوت والصورة أمامي، عدت بذاكرتى لسنوات مضت عملت خلالها فى الكتابة عن المشروعات والمبادرات الشبابية منذ انتهاء الثورة وحتى الآن، الكثير من الأفكار والمبادرات التى لم يحلم أصحابها بأكثر من موضوع صحفى فى جريدة قد تلقى عليهم بالقليل من الضوء، استرجعت آلاف القصص عن أحلام الشباب الضائعة، عن الآلاف ممن لم يجدوا فى وطنهم فرصة عمل فحملوا حقائبهم لأراضى الغربة القاحلة، استرجعت الألم الذى يعيشه شاباً ضاق به الحال فلجأ لهجرة غير شرعية على سطح مركب متهالك غرق بأحلامه قبل الوصول، استرجعت أثناء تجولى فى أروقة المؤتمر أوضاعاً متردية يشكو منها الشعب بالكامل، إحباطاً يعيشه شباب الوطن، ويأساً أصابنا من انتهاء هذه السنوات العجاف، ورأيت فى الوقت نفسه أملاً فى الخروج، رأيت أملاً فى التوقف عن الصخب السياسي، ومناقشات فرض الرأي، رأيت جلسات نقاشية موسعة بحضور رئيس الدولة، وإعلاميون ينتقدون الرئيس فى حضوره بدون خوف أو قلق، رأيت أسئلة يتم طرحها على الرئيس ليست معدة مسبقاً من أجهزة الأمن كما اعتدنا فى العصور السابقة، ورأيت حواراً عميقاً شديد الصراحة بين التوجهات والتيارات السياسية المختلفة.
ازداد انبهارى بمتابعة المناقشات السياسية عن بعد، رأيت رجالاً من المعارضة يطالبون الرئيس فى وجهه بالإفراج عن المعتقلين من الشباب، ورأيت كبار الإعلاميين يطالبون بالإفراج عن معتقلى الرأى، وتحرير الصحافة المصرية من القيود والتضييق، أدركت وقتها أن المعادلة رابحة فى جميع الأحوال، أن مؤتمر الشباب الأول سينتهى حتماً بالمكاسب وليس العكس، وأن ما يمكننا الحصول عليه اليوم حتى وأن كان قراراً واحداً بالتغيير هو مكسب، وأن المعادلة محسومة لصالحنا مهما اختلفت النتائج، وأدركت أن المؤتمر هو فرصة لجمع ما يمكننا جمعه من مكاسب.
فحصول شاب مصرى واحد على فرصة عمل هامة فى منصب قيادى، أو تنفيذ مشروع ناجح قد يساعدنا فى المرور من أزمة طاحنة هو واحد من المكاسب، وحقيقة الأمر أن توقعاتى جاءت فى محلها بعد الجلسة الختامية لمؤتمر الشباب، بعد الخروج بـ8 قرارات من المكاسب الصافية، كان أهمها تعديل قانون التظاهر، وتشكيل لجنة لإعادة النظر فى قضايا الشباب المحبوسين، هى مكاسب ذهبية لم نتمكن من الحصول عليها فى ساحات الحرب، وحصلنا عليها فقط على طاولة الحوار، مكاسب أخرى لا يمكن رصدها هى ما حصلنا عليها أيضاً فى ثلاثة أيام كانت أكثر جدوى من 5 سنوات من القتال على قطعة أرض محايدة تجمعنا، شرم الشيخ كانت هى قطعة الأرض المحايدة التى جمعتنا باختلاف توجهاتنا وأعمارنا ومناصبنا، جمعت ممثلين عن الشعب من شبابه لشيوخه، وضعت أمامنا خياراً أسهل من الحرب والتصيد والأحكام المطلقة، وضعت أمامنا الحوار حلاً منجزاً للكثير من المشاكل، سمحت لنا بالمشاركة، والعتاب، والنقد، والهجوم والصراحة، منحت الشباب فرص حقيقية للعمل والإبداع، ووضعتهم على رأس طاولة المفاوضات، اعترفت لهم عن طيب خاطر بحاجتها الماسة إليهم، وقابلوا اعترافاتها الصادقة بالكثير من الحماس والاستعداد للعمل من أجلها، وضعت الشعب أمام قياداته، ووضعت القيادات أمام مرآة الحساب، أكدت بداخلنا أن مصر مازالت وستظل لفترة لا يعلمها سوى الله تعانى من مئات المشاكل القاسية، وأكدت لنا أيضاً أن فرص الحلول متاحة وليست مستحيلة كما كنا نظن، وتركت لنا حقنا الكامل فى ممارسة "الإنصات".. وفرصة انتظرناها للتأمل والنقد والتحليل.