يا رب إنى خائف كما ترى
والقلب منى حائر كما ترى
وقبلتى ضائعة كما ترى
فما ترى يا ربنا فيما ترى
سنوات مرت كنت أكتب خلالها تلك الكلمات على دفاتر محاضراتى، أو أى ورقة تقع فى يدى، وكأنها نشيدى الوطنى، أهتف من داخلى إنها تمثلنى تماما، أذكر مرة قرأها زميل لى فى العمل الذى كنت أقضى إجازتى الجامعية فيه، فهتف مستنكرا إنها كفر وحرام، كيف لا تعرفين قبلتك؟ لم أناقشه كان طالبا أزهريا يقضى إجازته الصيفية مثلى، بائع فى إحدى المحلات، فمشكلتى وقتها أنى كنت أعرف قبلتى جيدا، لم يطِل المناقشة فكونى طالبة فى كلية الإعلام أصلا كان سببا كافيا للدعوة لى بالهداية وصلاح الحال.
نقلت تلك الكلمات عن الصديق الذى عثرت عليه صدفة فى أواخر عام 2004 كنت طالبة بالسنة الأولى فى كلية الإعلام جامعة القاهرة، وكان هو طالب بالسنة الثانية أو الثالثة بكلية الآداب، كان الفارق العمرى بيننا بالنسبة لى وقتها لا يتعدى عاما أو اثنين، أما فى الواقع فقد كان عشرات السنين.
عرفته قلقا.. حائرا.. خائفا.. متشككا.. وارتاحت نفسى إلى كل ذلك، هل كنت أبحث عن من يحمل مشاعرا مشابهة لى.. ربما. هناك دائما وجه للشبه بين أى اثنين، لو أراد أى ثنائى أن يجدا وجها من تشابه بينهما لوجدا، وإن لم يجدا لاختلقا واحدا، ليبعث فى نفوسهما الاطمئنان إلى وجود تشابه بينهما!.
كان قلقى طبيعيا، انشغالا بما بعد الجامعة، بالعمل بالصحافة التى لم أجدها فى الكلية، وحلمت أن أقابلها بعدها، لكن خوفه كان أكبر وقلقه أعمق، كان يقول إن الخوف أقوى مشاعره فى كل مراحل طفولته، وعندما أصبح شابا صار القلق، وعندما صار رجلا أصبح الشك، فكانت طفولته كالطريق الذى إذا التوى كان علامة استفهام وإذا استقام كان علامة تعجب!.
هل كان خوفه وقلقه مُعدِيا، كان كالأنفلونزا لا هى مرض ولا هى صحة، فأنا بها بين بين.. أتأرجح بين الصحة والمرض، لا أنا مريضة للحد الذى يلزمنى الفراش، ولا صحيحة للدرجة التى تعين على النشاط للحياة بشكل طبيعى، فقررت أن أقاوم هذا القلق بعد التخرج، التحقت بعمل فلم أر داعيا للقلق والخوف، لماذا إذا أتحمل إنسانا يتفنن فى دغدغة مشاعر الاستقرار والأمان داخلى؟ تركت أوراقه الكثيرة أمامى خرجت من عالمه، وكوكب إبداعه بلا رجعة، فارقت أنيس منصور بعد أن لازمتنى كتبه طوال دراستى فى الجامعة، وبعد عشر سنوات عُدت، لم أنس يوما الخوف، ولا اختفى القلق لحظة، اكتشفت أنه لم يكن سببا لهما لكنه كان فقط يذكرنى بهما، يواجهنى بما لا أريد أن أعرفه عنى، عدت أقلب ذكرياتى معه فى ذكرى رحيله الخامسة التى مرت منذ أيام، وكأن سنوات لم تمر، فلا الخوف انتهى، ولا القلق اختفى، ولا أشعر أنى رسيت على بر.
رجل بسيط يتجول فى القرى أو شوارع القاهرة الشعبية يحمل على ظهره صندوق خشبى كبير تتخلله فتحات صغيرة، ينادى على بضاعته التى يهواها صغار الحى، فيجتمعون حوله ممسكين فى أيديهم بملاليم قليلة تنفتح بها أمامهم نافذة على العالم..على الخيال، فى زمن لا تليفزيون فيه، والسينما حلم عزيز على أمثالهم، يتحلقون حول الصندوق الخشبى ينظرون بأعينهم الصغيرة داخل فتحاته، فيمر أمامهم عنترة مبارزا الأعداء من فوق حصانه أو أبو زيد الهلالى منتصرا على خصومه بضربة سيف.. الصور تمر.. صاحب الصندوق يروى حكاية البطل.. يروى معها عطشهم إلى المعرفة.. يروى عقولهم بالخيال.. هل كنت مثل هؤلاء الأطفال أبحث عن عالم آخر؟
لم أقرأ كتابا بعيدا عن كتب المدرسة حتى دخولى الجامعة حتى وقعت يدى على أول كتاب قرأته فى حياتى، فتعرفت على صندوق الدنيا الجديد..الكاتب الذى فتح أمامى نافذة على العالم.. على الفلسفة..الأدب.. الحب.. تعرفت على أنيس منصور.. وفجأة انفتحت رأسى، وملأت عينى وعقلى أسماء لم أكن أعرف عنها إلا حروفها فقط، بل إن بعضها سمعت بها لأول مرة منه.
قابلت كثيرين فتح "أنيس" أدمغتهم، وأخرج ما فيها، وعرضه أمامى ببساطة شديدة، فى دعوة للمعرفة، قد يشجعنى ما قاله عنهم أو منهم على الذهاب إليهم مباشرة بعده، أو الاكتفاء بما قدمه عن العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وفولتير وسارتر وشوبنهور ومصطفى وعلى أمين وكامل الشناوى وجمال عبد الناصر والسادات وغيرهم..
كان العقاد الفتحة الأهم فى صندوق الدنيا.. البطل الرئيسى لصاحب الصندوق، وكأنه أبو زيد الهلالى أو عنترة بن شداد. وعبر 800 صفحة من كتابه "فى صالون العقاد" نجح أنيس منصور أن يجعل القارئ يعيش معه داخل صالون العقاد حيث اللقاء الأسبوعى الذى اعتاد أن يقيمه الأستاذ فى بيته وأعتاد أن يحضره أنيس منصور لسنوات، واصطحبنى معه وأجلسنى إلى جواره بصفحات كتابه الممتع.
جلست استمع إلى العقاد هادئا.. عاقلا .. ثائرا يصب لعناته على الجميع.. الأفكار والبشر كل سواء.. الوجودية والشيوعية والنازية والبهائية وأحمد شوقى وطه حسين ويقلب اليهود على جمر انتقاداته، منطقه واضح كالشمس، ورغم ذلك لم يفلح فى إقناع أنيس منصور بالتخلى عن فلسفته الوجودية التى عذبته طويلا وعذبنا معه.
يموج الصالون بالمصطلحات الفلسفية.. الأديان.. المذاهب الفكرية.. فندها العقاد ببساطة شديدة.. تلك البساطة لم تكن أبدا من سمات العقاد، ولكنها طابع أنيس منصور اتضحت بفضله، فهو وحده الذى مهد الطريق لفهم أفكار العقاد، وجعلها فى متناول الجميع، فقدم العقاد، والأفكار التى شغلت الحياة الثقافية والسياسية فى الخمسينات والستينيات.
عندما ثار العقاد قائلا:ما هذا الكون؟ ما هذه الدنيا؟ أعطنى المادة الأولية لهذا الكون وأنا أصنع لك واحدا أفضل منه.
كان يخشى أنيس وأصدقائه أن ينهدم البيت فوق رؤوسهم انتقاما للسماء التى تجاسر وتتطاول عليها الاستاذ، وكنت مثلهم.
أفكار العقاد زلزلت الجميع، فقرر أنيس منصور أن يزلزل وجدان من لم يحالفه بالحياة فى العظماء فى مصر.
الشيوعية.. عند الاستاذ تهدم الفرد لحساب المجتمع.
النازية.. تهدم الفرد لحساب الحاكم الدكتاتور
الوجودية.. تفسد أخلاق الفرد تدوخه فلا يعرف رأسا ولا ساقا ولا طريقا ثم تجعله بعد ذلك يجد اللذة فى العذاب.
البهائية.. كان يقول العقاد ضاحكا عنها أنها "مدرسة العجة" أى كسر البيض من كل لون وشكل، وحجم بما فى ذلك بيض الدجاج والثعابين والغربان، فالديانة البهائية تخلط المسيحية باليهودية بالإسلام بالبوذية فالبهائيون لا يريدون أن يغضبوا أحد فأغضبوا الجميع، كان يراهم كالرسام الذى ذهبت إليه جميع الألوان تشكو من الفوراق بينها، فألقى بهم جميعا فى إناء واحد ليساوى بينهم، فانعدمت الألوان.
حتى طه حسين لم يسلم من الأستاذ، فكان النقار بينهما طويلا وغير مباشر غالبا، يكفى أن يفتح أحد سيرة أحدهما للآخر، لينهال النقد فوق رأس الغائب، د.طه حسين لا يعجبه كتاب العقاد عن أبى نواس، ولا يرى الكتاب إلا ترجمة عربية لكل فلسفة فرويد لسلوك الشاعر العربى، والعقاد يرد غاضبا: بل إن طه حسين نفسه واحد من الأمراض النفسية عند فرويد.
وعندما هاجم العقاد عبد الناصر بعد محاولة اغتياله الفاشلة فى المنشية، ليس غضبا من محاولة الاغتيال، ولكن غضبا مما قاله عبد الناصر يومها فقد قال مخاطبا الشعب: أنا الذى علمتكم الكرامة، وأنا الذى علمتكم العزة.
فثار العقاد فى صالونه معلقا: إن شعبا يسمع مثل هذه العبارة ولا يثور عليه، ويشنقه فى مكانه، لشعب يستحق أن يحكمه، ويدوسه بالنعال مثل هذا الرجل، إنه عندما قام بثورته وجد البيوت، والشوارع، وملايين الناس، والأهرامات، والثورات، والجامعات، ومئات الألوف من الكتب، لقد سبقه إلى الوجود كل هؤلاء.
لم أستطع بالطبع أن أدافع عن عبد الناصر - الذى أحبه- أمام ثورة العقاد، ليس فقط لأن حضورى الصالون كان خياليا، ولكن أيضا لأن العقاد كان كشمس الظهيرة فى أغسطس حارا، وحارقا لا يستطيع أحد أن يفتح عينيه فى مواجهته، فما بالك بفمه، كما أنه كان محقا فيما قاله.
والعقاد كان يؤمن بقاعدة حاكمة لا تفريط فيها: من يأخذ منك حريتك فهو لص.. سواء يضع على رأسه تاجا من ذهب أو من الشوك أو عمامة بيضاء أو سوداء.. أو قفصا من السميط والبيض.
هكذا ببساطة شديدة ينال من الجميع فالحرية ثم الحرية أهم ما يمتلكه الإنسان، لا حاكم، ولا رجل دين، أيا كان الدين يحق له مصادرة حريتك.
"فى يوم جلست أتسلى بحياتى، وتخيلت قلمى سنارة أدلى بها فى طفولتى استخرج مخاوفى أو أسباب خوفى إيمانا منى بأن المخاوف كالسمك إذا خرجت من الماء ماتت" كان يتحدث أنيس منصور عن مخاوفه، ومحاولاته التخلص منها، وفكرت يوما أن أجرب طريقته، وأجلس على شاطئ طفولتى اصطاد أسباب خوفى، لعل وعسى أن تنتهى.
أُدين بالخوف فى حياتى لحكايات العفاريت، والأرواح التى تلهو فى الطريق بين بلدة أبى، وقرية أمى، فأجواء السهرات العائلية المرحبة بنا فى زياراتنا للبلد، لا تحلو ولا تكتمل إلا بذكر اللهم إحفظنا، فأى حكايات عن الأحوال، وأخبار الأهل تنتهى غالبا بحكاية عن أرنب تائه فى الطريق بعد منتصف الليل، فيجرى خلفه أحد أبناء العائلة مقتحما الغيطان على ضوء القمر الخافت، ولولا أن أدركه التعب، لأكمل مطاردته للأرنب "الحلم"، ولكنه يعود للبيت ويحكى لجدتى فتنهره، وتؤكد عليه ألا يكررها فعلته ثانية، فلم يكن ما ركض خلفه أرنبا بل روحا لقتيل، ولو أمسك به ليلتها لتلبسته روح القتيل، وفقد عقله لكن ربنا سلم.
وحكاية أخرى عن البلح العائم على سطح الترعة المواجهة لبيتنا فى بلدة أبى، فما أن يمد الرجل يديه لالتقاطه حتى تسحبه الجنية إلى الماء فلا يخرج إلا جثة إذا خرج أصلا .
حكايات كثيرة أبطالها عفاريت، وأرواح قتلى تعبث بالأحياء، وتبعث الخوف من الليل فى نفسى، كل شئ فى ليالى الريف مزيفا، قد يكون خيالا، قد يكون روحا تبحث عن جسد تسكن فيه.
أما الصيد الثانى الذى تعلق بسنارتى كانت صفحات الحوادث، فى السادسة من عمرى كنت أقرأ الجريدة التى تصل بيتنا بشغف كبير ألتهم كل ما يُكتب فيها حتى صفحات الوفيات، هل كان فرحا بالقدرة على القراءة، رغم وجود زملاء لى فى الفصل لا يفكون الخط، وأنا نجحت فى القراءة بعد أول شهر فى أول سنة لى بالمدرسة الابتدائية، وأول خبر قرأته كان من جورنال الأخبار عن سفر الفنانة فاتن حمامة صحيح أن أبى يومها اكتفى بنجاحى فى قراءة العنوان فقط، ومنحنى يومها 25 قرشا مكافأة، وهو مبلغ كبير جدا وقتها ولا أعرف حتى الأن إذا كانت تلك الثروة سببا فى حبى للصحافة وحبى لفاتن حمامة أيضا.. ربما.
ولأنى كنت أقرأ الجريدة بالكامل كانت صفحة الحوادث التى توقفت عن قرائتها منذ سنوات ولكن الامتناع الأن لم يمح آثار ما فعلته بى أيام الطفولة تماما مثلما فعلت حكايات العفاريت، فهناك حوادث ظلت عالقة فى الذاكرة، أتذكر جيدا خبرا عن احتراق شقة بسبب انفجار أنبوبة بوتاجاز، والعثور على جثة طفلين متفحمين أسفل بقايا سرير محترق داخل الشقة، كان حادثا كبيرا، وكانت أخبار انفجار أنبوبة متكررة كثيرا، تختلف الخسائر وعدد الضحايا وقد لا يوجد ضحايا، ولكن كان طبيعيا بعدها أن أخشى تغيير أنبوبة بيتنا لسنوات طويلة ومازلت حتى الأن، أما حوادث الطرق التى لا تنتهى أبدا جعلتنى لا أنام أبدا أثناء السفر ليلا إلى بلدنا، الجميع يفضلون السفر بالميكروباص ليلا، وكنت أصغر من أن اعترض على موعد أو وسيلة السفر كان الجميع يغوصون فى نوم عميق، ووحدى لا تغمض لى عين حتى نصل.
أما أنيس منصور فكان صيده الخوف من السباحة فهو يخشى المياه حتى بعد أن عرض عليه السباح العالمى عبد اللطيف أبو هيف شخصيا أن يعلمه السباحة، ولكنه رفض.
لن يسبح.. لأنه ذهب يوما مع بعض أصدقائه، وبينهم ابن خالته للسباحة، واتعقد أن ابن خالته غرق وخاف من الرجوع للبيت بدونه، وغفل لدقائق ثم صحى مفزوعا على صوت بكاء أمه التى بحثت عنه طويلا ووجه ابن خالته الذى اعتقد أنه مات غرقا، قد كان حلما بعد أن تعب من السباحة، ورفض العودة مع أصدقائه فرأى فى غفوة الإرهاق من العوم أن ابن خالته غرق.
لم يذق الشيكولاتة إلا مؤخرا.. لا يحبها..وحتى لا تكون محبا للشيكولاتة يجب أن يكون هناك سببا قويا، فيقول أنيس: فى حصة ما قال مدرس أن الأحباش ليسوا سودا، ولكنهم فى لون الكاكاو فرفعت يدى وسألت المدرس يعنى أيه كاكاو؟.. اندهش المدرس أنى لا أعرف الشيكولاتة ولا الكاكاو.. وجاء فى اليوم التالى الناظر وكان ابن خالتى وكان متعاليا مغرورا فدخل الفصل، وأخرج من جيبه قطعة من الشيكولاتة ورماها فى وجهى وقال: دى تبلها وتشرب مايتها.. هذه هى الكاكاو وخرج وضحك التلاميذ والمدرس.. وظللت طوال عمرى لا أشرب الكاكاو ولا أكل الشيكولاتة، وإن فعلت فقليل جدا.