أيام وتأتى الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير، فى كل ذكرى من الذكريات الأربعة السابقة كان هناك شعور بالشجن وعدم الرضا، حتى إنى مازلت أتذكر الذكرى الأولى للثورة، وقد جاءت مقالات الرأى بحسابات "المكاسب والخسائر" متحسرة فى معظمها على "الفرص الضائعة"، فيما جاءت قلة من المقالات تغمز وتلمز فى الثورة والثوار! بينما قرر الثوار فى ميدان التحرير "تعليق المشانق" للفاسدين والقتلة الذين لم يتم عقابهم بعد!
لعل هذا العام مختلفا، صحيح استمرت الحسرة مستمرة بلا توقف، لكن هناك زخما مختلفا هذه المرة، روحا مختلفة، الثوار رغم كل ما تعرضوا له قرروا التشبث بالثورة، الإعلان بفخر أنهم شاركوا دون خوف أو تردد، بينما قرر المتململون وغير المتأكدون، بالإضافة إلى الغامزين واللامزين منذ اليوم الأول، التنكر والتبرؤ من الثورة، إما باعتبار أن من قام بها متآمر أو أنه على أقل تقدير ساذج تم التلاعب به!
أجهزة الدولة موقفها ليس أقل غرابة، فقد قررت التوسع فى حملة الاعتقالات العشوائية والتحذير المبالغ فيه من النزول فى يناير، وجندت بعض موظفيها من رجال الدين وعلمائه لترهيب الناس من النزول فى هذا اليوم وإلا طالتهم نار جهنم وبئس المصير!
فى الحقيقة قد نختلف أو نتفق على طريقة إحياء هذا اليوم أو حتى على حساب المكاسب والخسائر، ولكن وبكل تأكيد لن نختلف على مجموعة أساطير أسقطتها الثورة! سقطت للأبد مهما حاول البعض إحياءها أو إحياء الإيمان بها بشكل يجعلنا نجزم أن التحولات قد بدأت فى يناير بالفعل وستظل مستمرة إلى حين!
لم تمس بعد تلك التحولات الهيكل السياسى للجمهورية التى أسسها عبد الناصر باستثناء بعض المحاولات غير الموفقة بين ٢٠١١ و ٢٠١٣ ، ولكنها وبوضوح مست الأسس الثقافية والاجتماعية لجمهورية ١٩٥٣ وهى خطوة هامة نحو تشكيل الوعى السياسى اللازم لقلب السلطوية رأسا على عقب فى مرحلة لاحقة!
أسقطت ثورة يناير أسطورة قدسية رجال الدين وارتباطهم الوثيق بالله! فقد أظهرت بوضوح السنوات الخمس الفائتة أن الكثير من رجال الدين وعلمائه ملتفون حول السلطان لا حول الله، كشفت أن وعى الكثير منهم وقد ادعوا العلم بالأمور وبواطنها، لا يزيد كثيرا عن وعى بعض المواطنين البسطاء، أنهم موظفون ينتظرون الحصول على مرتب آخر الشهر وربما ترقية هنا آو هناك! هذا أو معول للضرب على منطق جمهورية ١٩٥٣ الذى أمم الدين ومؤسساته وحول رجال وعلماء تلك المؤسسات إلى أدوات طيعة للسلطة!
أسقطت ثورة يناير أسطورة المؤامرات كمبرر وذريعة دائمة للنظم المتتالية التى حكمت مصر منذ انشاء الجمهورية! عرف قطاع واسع من الشباب الآن أن المؤامرات ما هى إلا حجج واهية للدفاع عن السياسات الخاطئة والفاسدة، هى أسلوب لتدجين الناس وإبقائهم راضين عن الأوضاع البائسة!
كل أساطير حروب الأجيال بدءا من الرابع وصولا إلى الثامن ما هى إلا مبررات خائبة للالتفاف حول حقائق واضحة، الدولة يتم إدارتها بشكل خاطئ ولا يوجد أى فاعل سياسى دولاتى قادر أو راغب فى تحمل المسئولية!
أسقطت ثورة يناير أسطورة "هيبة الدولة" وهو اللفظ "السيادى" الذى تم ارتكاب كل المبوقات باسمه! باسم هيبة الدولة تم حجب المعلومات عن الناس، باسم هيبة الدولة تم تبرير انتهاكات الداخلية، باسم هيبة الدولة تم الالتفاف على القانون وخرق الدستور!
الحقيقة أن يناير عرت "هيبة الدولة" وأظهرتها على حقيقتها، مجموعة منتفعين وشبكات سياسية وأمنية تدعى أنها تعرف أكثر وتدعو الناس للسكوت، بينما هى فى الواقع أول من ينتهك هذه الهيبة! الآن وبجلاء من لا يعرف أن "هيبة الدولة" هى هيبة دساتيرها وقوانينها وحقوق شعبها الاقتصادية والاجتماعية والشعبية، فهو من السذج آو المغيبين أو المنتفعين ببساطة!
أسقطت ثورة يناير أسطورة "بطانة السوء" التى اتخذها البعض دوما كحجة أخلاقية ومبرر منطقى لتبرئة الحاكم الفرد من مساوئ سياساته، ففرضية أن "الرئيس حلو والحكومة وحشة" لم تعد تنطلى على كثيرين، على الأقل على قطاعات واسعة من الشباب الذين تأكدوا بأنفسهم، أن الحاكم ليس قاصرا، فهو يختار نخبته وانحيازاته وسياساته بنفسه، فالمسئولية عليه قبل أن تكون على أحد آخر!
أسقطت ثورة يناير أسطورة "مدنية الدولة"، فالخمس سنوات الفائتة أوضحت بشكل لا لبس فيه أن "مدنية الدولة" ليست فقط مفهوم مخالف للحكم الدينى، ولكنه أيضا مفهوم مخالف للحكم العسكرى! فرغم أن الجماعات الدينية التى كانت تحكم البلاد لم تعد تحكم، إلا أن مدنية الدولة لم نر منها شيئا ولن نرى منها شيئا قبل أن تتغير قواعد الجمهورية وأسسها، بحيث يتم الانتصار لمبادئ الحرية والمواطنة والعدالة وهى مبادئ رهينة بضبط العلاقات المدنية العسكرية، وفك ارتباط الأخيرة بالحكم السياسى المباشر.
كما أسقطت يناير ضمن ما أسقطت، أسطورة "الشعب غير المهيأ للديموقراطية"، فمن ناحية أثبتت الأحداث السياسية أن النخب السياسية إما أنها غير راغبة آو غير مؤهلة للديموقراطية بالفعل، وأن انحيازاتها كانت دائما وأبدا تعبيرا عن حسابات مصلحية مؤقتة ملتحفة بغطاء فكرى أو أيدولوجى رنان، يخفى الحقائق المرة، بل إنى أدعى أن بعض هذه النخب كاره للديموقراطية لأنها ستساوى الجميع وهو ما لا يجب أن يكون بحسب ثقافة النخبة الفوقية المتأثرة بعهود الإقطاع والتراتبية الاجتماعية المرتبطة به!
ومن ناحية أخرى فقد كشفت الثورة وتداعياتها فى السنوات الخمس الماضية، كيف كان يتم الترويج لعبارة "الشعب الدى علم الدنيا" حينما يكون الفعل الجمعى معززا ومطلوبا بواسطة السلطة، بينما تعود نغمة "الشعب غير المؤهل للديموقراطية" حينما تكون الأفعال الشعبية ضد رغبة السلطة أو حينما يأتى موعد حرمان الناس من حقوقها وارتهان مستقبلها لحساب مصالح محدودة وضيقة!
سقوط الأساطير فى حد ذاته يعد نجاحا، لأنه يعنى بداية التحول، والحقيقة أن هذا التحول مستمر ولم يتوقف لحظة منذ تنحية مبارك عن المشهد، صحيح أنه لم ينتج تغيرات واسعة بعد، وصحيح أننا الآن فى مرحلة أسوأ بكل المقاييس من المرحلة التى كنا نقف عندها عشية الثورة من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، لكن الصحيح أيضا أن سقوط هذه الأساطير واهتزاز عشرات غيرها من مسلمات جمهورية ١٩٥٣، هو تعبير عن تغيرات ثقافية واجتماعية مهمة، هو تغيير وضرب بمعول على القوة الناعمة للسلطوية المصرية التقليدية، قد ينتج تغيرات أخرى فى هيكلها وبنيتها وبالتالى سياستها ولذلك حديث آخر.
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة