لقد خلق اللهُ تعالى الكون كله- وفى مقدمته الإنسان- على سُنَّة ثابتة وقانون مُطَّرِد ، وهو أن يكون مُتنوِّعًا ومتعددًا، سواءٌ من ناحية الكَمِّ بما فيه من مخلوقاتٍ لا يعلمها إلا الله سبحانه، أو من ناحية الكيف فينقسم الجنس الواحد إلى ذكرٍ وأنثى، وإلى أبيض وأسمر، وإلى مُتعدِّد اللغات بل اللهجات فى اللغة الواحدة.
كلُّ ذلك لخدمة الإنسان والأمة التى يندرج فيها، وهو ما يُعْرَف بـ «سُنَّة التعارف» التى قال سبحانه فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13].
فالتنوعُ لِتتعدَّد المواهبُ والخصائص ، وتزداد بذلك الوظائف ، ثم يأتى التعارف وتبادل المصالح والمنافع، ثم التعاون؛ ليحصل المقصود الأعلى وهو «التكامل»؛ ليصبح بنو آدم بناءً واحدًا، يجمعه الإنسانية بكلِّ ما فيها من أمورٍ مشتركة، كالعقل ، والشعور والوجدان ، والسمو والترقى فى مدارج الكمالات ، باعتباره المخلوقَ الـمُكَرَّمَ من قِبَل خالقه عز وجل .
وهذه القواسم المشتركة بين بنى الإنسان، جديرةٌ بأن تجمع شتاته وتُوحِّد رؤيته تجاه نفسه بل تجاه الكون كلِّه، وتجعل الترتيبَ المنطقى فى التعريف بالنفس أن يَذْكُرَ بعد الإنسانيةِ الجنسَ بمعنى القبيلة أو الوطن أو الأمة؛ إذ إن كلَّ ذلك مُرتبِطٌ بتكوين الإنسان نفسه. ثم يأتى بعد ذلك الدين .
فيقال عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم – مثلًا- : محمد بن عبد الله، الـمُطَّلِبِى القُرَشِى الـمَكِّي، قبل بعثته وبعدها ؛ ولهذا ذُكر ببشريته أولًا ثم برسالته فى قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}[الكهف: 110].
فالانتماء للجنس البشرى ثم للأهل والبلد، شيءٌ راسخ فى النفوس وتواترت عليه الطبائع، حتى أكَّد ذلك القرآن العظيم فى قوله: {وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } [ يوسف : 21]؛ فلم يُذكَر عَزِيزُ مصر هنا باسمه أو بوصفه، وإنما نُسِب لبلده.
ومن طبيعة البشر، أن يُحافِظوا على الأرض التى يعيشون عليها، والعِرْضِ الذى يملكونه، ونقصد بالعِرْض هنا كرامةَ الإنسان وحريته واستقلاله، فلا يرضون بالمهانة أو الاستذلال فى أنفسهم ولا فى بنى وطنهم، بل ولا فى بنى جنسهم، حتى قبل مجيء الأديان. وليس أدَلَّ على ذلك مما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يُعرَف بـ «حِلْف الفضول»، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِى دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِى الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ»[رواه البيهقي].
وسبب هذا الحلف أن قريشًا رأت ما أصبح عليه حالها مِن ضعفٍ وتفكُّكٍ وتطاولٍ من بعض القبائل العربية عليها، حتى فى الأشهر الحرم، بعد أن كانت عزيزةً يهابها الآخرون ويخشون بأسها، لولا ما جَنَتْه عليها «حرب الفجار»، من قَتْلٍ لشبابها ورجالها، وإفناءٍ لثروتها، فقام الزُّبَيْرُ بن عبد الـمُطَّلِب- عمُّ النبى صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى حِلْفٍ يجمع به شتاتَ قُرَيْشٍ ويُوحِّد صفوفَها، فأجابته بُطُونُ قريشٍ كلِّها، وتحالَفُوا على ألا يجدوا بـ«مكة» مظلومًا مِن أهلها، أو مِن غيرهم ممن يَفِدُون إليها، إلا قاموا معه ونصروه حتى تُرَدَّ عليه مظلمته.[سيرة ابن هشام].
وبهذا المعنى يتهيَّأ المناخ، وتتجهَّز التُّرْبة؛ للتحقُّق بوصف الإنسانية، الذى هو بداية البناء والتحضُّر وعِمارة الكون والانطلاق إلى التأثير فى العالم كله؛ إذ إن القاعدةَ تقول: (إن مزيدًا من ترسيخ المحلية يؤدى إلى السير فى الإقليمية ثم الانطلاق إلى العالمية)، ولا يتأتى ذلك إلا بوحدة الأمة، والتفاف أبناء الوطن حول وطنهم، بالعيش السِّلْمي، والتعاون المجتمعي، والبناء الحضاري، من أرضية المبادئ المشتركة، والقيم الراسخة التى يرثها أبناءُ كلِّ بلدٍ عن آبائهم وأجدادهم.
ولذلك كان الحُكَماء فى كلِّ وقتٍ أداةً لجَمْع شَمْل الأوطان وتوحيد صفوف أبنائها، وتبصيرهم بمصالحهم ليعملوا على تحصيلها، وبمفاسدهم ليحرصوا على دَرْئها واجتنابها، وليتيقنوا فى الوقت ذاته بأنه: إذا لم يجمعك مع الآخر «دين»، فَلْيَجْمَعْكَ «وطن» بكلِّ أبعاده الجغرافية والتاريخية والثقافية، وما يدخل فى ذلك من عاداتٍ وأعرافٍ يتفق عليها أهل ذلك الوطن، من خلال منظومة الأخلاق والقيم المرتكزة فى فِطرة كلِّ إنسانٍ سَوِيٍّ.
ولقد ضَرَب لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيرَ نموذجٍ ومثالٍ لهذا المعنى، فى توحيد الأمة قَبْل النظر إلى توحيد الدين؛ إذ هو الـمُدِرك بأن اختلافَ الدين سُنَّةٌ ثابتة تَحكُم حركةَ هذا الكون بمن فيه، حيث يقول اللهُ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[هود: 118]، ويقول سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[المائدة: 48]، ويقول عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99].
وبهذا اليقين الراسخ والفهم العميق لسنة الله فى خلقه ، كان أوَّلُ ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة المنورة ، هو توحيد أبنائها وتبصيرهم بأولى خطوات هذا الاندماج والتوحُّد والاصطفاف حول تحقيق مصالحهم وحماية وطنهم، وهم المختلفون فى العقيدة والأيديولوجية؛ إذ منهم المسلمون من أهلها، وكذلك الوافدون عليها، ومنهم اليهود من سكانها، وكذلك أرباب الأهواء والمصالح ممن عُرِفوا بعد ذلك ب «المنافقين».
ومع ذلك التباين كلِّه ، فقد أظهر لهم ما يجمعهم ويجعلهم كيانًا واحدًا، من خلال صفة الإنسانية وقيمة المواطنة، وتَرْجَم تلك المعانى كلَّها فيما اشتُهر بعد ذلك بـ«وثيقة المدينة»، أو بلغة هذا العصر: «دستور التعايش» أو «المواطنة»، وجاء فيها:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ:
إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ... وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ، يُجير عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ...
وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ...
وَإِنَّ يهودَ بَنِى عَوْف أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إلَّا مَنْ ظَلم وأثِم، فَإِنَّهُ لَا يُوتِغ – أى يهلك- إلَّا نفسَه، وأهلَ بَيْتِهِ.
وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِى النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِى عَوْف، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِى الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِى عَوْف...
وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضار وَلَا آثِم... وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَإِذَا دُعوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ... وَإِنَّ يَهُودَ الْأَوْسِ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، مَعَ الْبِرِّ الْمَحْضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»(سيرة ابن هشام).
إن الإنسانَ لا يستطيع أن يعيش بغير وطنٍ يُؤْوِيه ويحميه، ويُرسِّخ فيه موروثَ آبائه؛ لِيُكمل غَرْسَهم ويُتِمَّ بُنْيانَهم، وهو فى الوقت ذاته يستطيع العيشَ بدينه فى أى مكانٍ؛ إذ هو فى الغالب بينه وبين ربِّه، والنتيجة اللازمة لهاتين المقدمتين:
أن «الوطن قبل الدين»؛ إذ لا تُقَام الشعائرُ إلا فيه. وأن «وحدة الأمة قبل وحدة الملة»، وإلا فما فائدة الدين فى أرضٍ مُختلِفٍ أبناؤها ومُتَشَرْذِمٍ ساكنوها، فتكون مَطْمعًا لغيرهم أن يهدموها ويستولَوْا على مُقدَّراتها وثَرَواتها البشرية والحضارية، وقبلهما التاريخية، فلا يبقى وطنٌ ولا يُقَام دِين، وهذا ما حذَّرنا القرآن الكريم منه، فقال فى حقائقه الباهرة المعجزة: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46].