فى فصل صغير داخل مدرسة ابتدائية كان أستاذ الدراسات الاجتماعية يعانى من تلاميذ فصله، الذين تطير التواريخ من أدمغتهم الصغيرة أسرع من تطاير رائحة الفلافل المقلية إلى أنوفهم من مطعم الفول المقابل للمدرسة، فحاول ابتكار أسلوب جديد يحفظ به تلاميذه واحدًا من أهم التواريخ المقرر فبدأ الحصة بسؤال وجهه للجميع.
- تسعة فى تسعة بكام؟
- صمت يخيم على الفصل وارتباك، أهى حصة دراسات اجتماعية أم حصة حساب، وتحول الصمت إلى همسات حائرة تجوب أرجاء الفصل مستنكرة، لماذا يستجوبنا أستاذ الدراسات الاجتماعية فى جدول الضرب، وسط موجات الهمس لم يجد الأستاذ مفرًا من إعادة السؤال مرة أخرى مضيفا درستوا جدول تسعة؟
-فأجاب التلاميذ: نعم
- طيب تسعة فى تسعة بكام؟
- بـ 81يا أستاذ صاحوا التلاميذ معا لأن السؤال لم يكن موجها لتلميذ بعينه، فهتف عاليًا من عرف الإجابة، ومن لم يعرف تمتم فاتحا شفتيته موحيا أنه يعرف.
- تسعة زائد تسعة كام؟
- بحماس أكبر رد التلاميذ 18.
- حطوا التسعة جنب التسعة جنب الـ 81جنب الـ18 يبقوا 9-9-1881 تاريخ قيام الثورة العرابية التى انتهت بهزيمة عرابى واحتلال الإنجليز لمصر، وتهللت وجوهنا أمام حِسبة الأستاذ، وكأنه حاو يخرج التاريخ من عملية حسابية بسيطة، واستغل الأستاذ انتباهنا المفرط إليه، والمغلف بإعجاب قلما ناله منا، واستطرد وكأنه يريد إلصاق كل المعلومات المتعلقة بهذا التاريخ فى عقولنا الصغيرة، فقال: يومها وقف عرابى مع قوات الجيش المصرى مواجها الخديوى توفيق أمام قصر عابدين، وطالب بتغيير الحكومة وزيادة عدد الجيش من المصريين وإنشاء مجلس نواب مصرى، ورفض الخديوى مطالب عرابى وقال: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.
فرد عليه عرابى: لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فوالله الذى لا إله إلا هو لن نورث، ولن نستعبد بعد اليوم.
تعلقت فى أذهاننا صورة عرابى على فرسه مخاطبا الخديوى توفيق بكبرياء وعزة يفتخر بها أى مصرى، ما جعل كثيرين وقتها يؤمنون بعرابى، فآمن به أيضًا اليوزباشى عبد الغفار الحسينى وسار معه حتى انتهت الثورة بهزيمة العرابيين، وانكسار قادته.
اليوزباشى الحسينى واحد من المؤمنين بالثورة العرابية، وممن نالوا عقابهم على تأييده بالنفى على هيئة مهمة عسكرية لنقل المؤن ومعدات للقوات المصرية فى مديرية الاستواء، وتعيين قياسات النيل فى المنابع، رحلة خاضها الحسينى عبد الغفار مع اثنى عشر ضابطا من جيش العصيان كما كانوا يطلقون على جيش عرابى بعد الهزيمة، انشغل الكاتب فتحى إمبابى فى تتبع رحلتهم وقدمها خلال 400 صفحة فى روايته الممتعة "عتبات الجنة".
فى بداية الرواية يتولد لدى القارئ انطباع أنه أمام رواية تاريخية تقدم بطولة عسكرية، فيتوقع نصًا جافا حافلا بالعبارات الرنانة والفخمة عن الواجب المقدس والوطنية وما إلى ذلك، لكن ما أن تشُق سفن البعثة العسكرية صفحة النيل فى طريقها إلى سر خلوده.. إلى المنابع فى أقاصى الجنوب.. متجهة إلى لادو عاصمة مديرية خط الاستواء المصرية، ومع توافد الضباط المنفيين إلى متن السفن، تنتقل الرواية فى انسيابية ممتعة إلى كشف الجوانب الإنسانية للأبطال، ومشاعر الانكسار الغاضبة داخلهم بعد الهزيمة وأوامر الخديوى توفيق تسريح الجيش المصرى الذى طالما حلموا بزيادة قواته، ومع إيمانهم المطلق بقدسية الأوامر العسكرية حتى وإن سماهم البعض جيش العصيان، فآبوا الهروب ونفذوا الأوامر الصادرة إليهم وذهبوا إلى المجهول إلى أرض لم يسمعوا عنها إلا حكايات قبائل تأكل لحوم البشر.
رغم أن الرواية تدور حول اثنى عشر ضابطا أرسلوا للمنفى فى صورة مهمة عسكرية، إلا أن الوجود النسائى فى الرواية لافت، فلم يكن وجودا هامشيا محدودا فإلى جانب قصة الإعجاب المليئة بالشد والجذب بين فرانسوا واليوزباشى الحسينى من ناحية، كانت زوجات الضباط اللائى سمحت السلطات بمرافقة أزواجهن محورا مهما فى الأحداث من ناحية أخرى، فقدم من خلالهن "إمبابى" انعكاسا لصورة المرأة فى المجتمع المصرى، فتجد نموذج ألفت هانم الرافضة لوصاية والدها الباشا عليها بعد أن رفض سفرها مع زوجها الضابط المنفى، فقررت الهرب من قصر والدها لتلحق بزوجها وتشاركه رحلته ومصيره، لأنها ترفض أن تتربى طفلتها بعيدا عن والدها.
ونموذج حبابة السودانية الأصل التى شاءت الأقدار أن يتزوج عمها من فتاة مصرية، ويعيش معها فى مصر وتنجب له ولدا، ما أن تراه حبابة فى دارهم ضيفا عليهم فى السودان بعد أن أصبح رجلا يافعا، فتطلب من والدها بعدها أن يسافروا الإسكندرية، حتى لا تخطف بنت سكندرية ابن عمها الزين فى تلميح لأبيها أنها ترغب الزواج من ابن عمها.
تُشيع قصص الحب والعلاقات الزوجية الراقية الموثقة بتقاليد وعادات أواخر القرن التاسع عشر جوا من المودة والإنسانية والدفء.
أما جانب البطولة العسكرية التى التقطها بمهارة الكاتب فتحى إمبابى بتقديمه جزءا مهملا من تاريخ مصر، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على جهود مصر ودورها التاريخى فى القضاء على تجارة الرقيق فى أفريقيا، ونشر المدنية والإسلام وسط القبائل الأفريقية، واتساع نفوذ الدولة المصرية حتى منابع النيل، وبينما تلقى الرواية الضوء على كل تلك التفاصيل المهملة من تاريخنا وعلاقتنا بأفريقيا، تبرز شخصية الصاغ حواش منتصر ضابط مصرى ضمن القوة المتواجدة بمديرية خط الاستواء، نموذج لضابط مصرى يؤمن برسالة القوات المصرية فى القضاء على تجارة الرقيق، نجح فى التعامل مع القبائل الأفريقية المختلفة حتى آكلى لحوم البشر منها التى تنتشر حول منابع النيل، ورغم قسوته المبالغ فيها إلا أن إنجازاته العسكرية حولت كراهية العرابيين له إلى إعجاب وانبهار بشخصه، رغم موقف حواش الرافض للثورة العرابية تمامًا المتهكم الساخر من ضباطها وولائه للخديوى، فجاء على لسان أحد الضباط الاثنى عشر بعد أن عمل تحت قيادة الصاغ حواش: "صار معلوما أن الصاغ يعرف طريقه لبلوغ أهدافه فى ظل أسوأ الظروف، ولا يقود جنوده إلى نهايات كارثية، وهو ضابط يملك مقومات القيادة التى جعل الجنود مستعدين للسير وراءه إلى أقاصى الدنيا والموت تحت رايته.
اعتمد الكاتب على أسلوب حوارى رشيق أدار به الحديث بين شخصيات روايته، إلا إنه استخدم أسلوب مغاير تماما فى الوصف، فعندما اتجه الكاتب لتصوير الطبيعة المحيطة بأبطاله، لجأ إلى مصطلحات ومفردات صعبة وغير شائعة شكلت فى بعض الأحيان جدارا عازلا أحال بين القارئ وبين الاندماج مع شخصيات الرواية، ولم ينهر الجدار إلا بتجاوز الوصف فى أحيان كثيرة، إلا أن هذا لم يقلل أبدًا من نجاح الكاتب فى انتقاء حدث تاريخى عابر نسج من خلاله مشاعر وعلاقات إنسانية متشابكة عبر بها عن فترة من تاريخ مصر تعانى كثير من التجاهل.