التحية واجبة لكل أم أو جدة مصرية أو غير مصرية ضحت وأعطت وأحسنت دون منّ ولا أذى
شابة سكندرية جميلة، تنحدر من أسرة فقيرة، لم تنل حظها من التعليم، زوجتها أسرتها الفقيرة على عجل من رجل قاسى القلب شديد المراس، أساء إليها ثم طلقها بعد أن أنجبت طفلين دون ذنب جنته. لم ينفق الزوج عليهما، رفضت أن تبيع أولادها، أو تلقى بهما فى الشارع أو تتزوج رغم جمالها حماية لأولادها، فالأزواج يريدونها وحدها، أغلقت قلبها على أولادها.
خرجت للعمل كفراشة فى مستشفى الرمد بالإسكندرية، منذ سنوات طويلة كان مرتبها لا يجاوز ستة جنيهات لا تسمن ولا تغنى من جوع، كبر الأولاد، دخلوا المدارس، زادت نفقاتهم، أرشدها أولاد الحلال على رفع قضية نفقة على زوجها، كسبت أول قضية فى حياتها، شعرت بالانتصار المؤقت، ظلت تدبر القرش فوق القرش للإنفاق على أولادها.
زادت المصاريف عليها، مرتبها والنفقة لا يكفيان، أرادت العمل بعد الظهر، رغبت فى العمل فى عيادة طبيب من المستشفى، بحثت عن طبيب يكره المغامرات النسائية فهى جميلة ولكنها عفيفة ولا وقت لديها للمغامرات واللهو فلديها رسالة عظيمة نحو أولادها.
وجدته كطبيب عيون «كالسيف فى معاملته مع النساء»، ولكن حظها العاثر أنه كان قمة فى البخل والشح، ظلت تعمل معه حتى بعد أن خرج الاثنان على المعاش، من يتصور أصبحت جدة جاوزت الـ65 عامًا ومازال يعطيها نظير أجرها من عملها بعيادته مائتى جنيه فقط.
هل هناك أحد يعمل بهذا المبلغ التافه حتى الآن، تكنس وتمسح العيادة وترتبها وتدخل المرضى كل يوم وتظل عدة ساعات فيها مقابل هذه الجنيهات المعدودة، تكره بخله إلى أبعد الحدود، تستلم الجنيهات آخر الشهر منه فى قرف وضيق، تدسها فى جيبها دون أن تعدها.
زوجت أولادها، ولكن أحدهم تعثر وضاقت به الأحوال فدخله لا يكفى أسرته، جعلته يعيش مع أسرته معها، مازالت تنفق على أولاده حتى الآن وتساعده فى الحياة الكريمة.
انتهت رسالتها كأم بعد مشقة وعسر وعنت وتعب، واستمرت فى رسالتها كجدة، «أين مصروفى يا تيته، فين الحاجة الحلوة يا تيته»، تخرج تيته من الصباح الباكر إلى المستشفى تعمل، ثم تأخذ نوبتجية مكان أى عاملة تريد الغياب مقابل عشرة جنيهات تشترى بها خضار أو فاكهة لأحفادها، عملها فى المستشفى ينتهى فى الثانية، وتعمل حتى الخامسة بدلًا من أى أحد بهذا المقابل التافه لأن عيادة الدكتور البخيل الساعة السابعة ولا تستطيع العودة إلى البيت ثم الرجوع، تفضل العشرة جنيهات. تستيقظ بعد الفجر، وتعود من العمل بعد العاشرة مساءً، يعرفها كل سائقى الميكروباص عند العيادة، يسخرون من دكتور العيون حينما يركبان الميكروباص سويًا فيدفع لنفسه ويبخل أن يدفع لها الجنيهان.
أصابها مؤخرًا سرطان الرحم، استأصلت الرحم، هى تعمل الآن فى المستشفى كزهرات «بملاليم» تضيفها إلى المعاش البسيط مع المائتى جنيه التى يرفض طبيب العيون البخيل جدًا أن يزيدها مليمًا حتى لو من باب الصدقة الخفية.
أى كفاح لهذه المرأة كزوجة ثم أم ثم جدة، تحياتى لهذه الجدة التى تسكن بجوار عيادتى وأشرف برؤيتها وأحفادها بين الحين والآخر، تحياتى لكل أم أو جدة مصرية أو غير مصرية بذلت وضحت وأعطت وأحسنت دون منّ ولا أذى، ودون توقف، هؤلاء الذين هم أقرب الناس لصفات الربوبية العطاء المستمر والمتواصل لكل أحد حتى للمسىء من أولادها وأحفادها، ولذلك لم يذكر القرآن كلمة «ثم» فى قوله تعالى: «وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا».