"العريس والعروسة غرقوا".. كان لتلك العبارة أثر الصدمة والرعب القادم على جناح الموت الخطف، والذى أنهى حلم "حبيبين" من قريتى ومسقط رأسى "الدراكسة"، كانا على وشك بداية حياة مفروشة بالسعادة، بعد ساعات ليجمعهما عش الزوجية الذى كثيرا ما حلم به "عريس" عائد من غربته التى استمرت لـ5 سنوات من الكفاح والتعب المشحون بمزاج من الأمل والألم انتظارا لهذا لقدر المحتوم، فلم يكن أكثر المتشائمين من أهله وأصدقائه - الذين يقطنون قريتى الوادعة - يتخيل أن يقضى الشاب "محمد عبدالحميد - العريس"، صاحب الـ 24 عاما، وعروسه "آية السيد محمد - 21 عاما، ليلتهما الأولى فى قاع "البحر الصغير" أمام المدرسة الثانوية الصناعية بدكرنس، بدلا من الزفاف فى قاعة الأفراح المعدة للعرس، والتى خيم عليها الموت متشحا بالسواد لاستقبال العزاء لثلاثة أيام متواصلة، بدلا من تلقى التهانى على الزفاف المنتظر.
سبعة كيلومترات فقط كانت تفصل بين الأفراح والأتراح، لله الأمر من قبل ومن بعد، ولأهل قريتى الطيبة خالص العزاء فى رحيل أربعة من زهرات شبابها " العريس والعروس و"محمد بلال» سائق السيارة، و"هناء الجنايني" إحدى أقارب العريس، والذين اغتالهم بالقطع يد الإهمال والتردى على طريق الموت القادم من المنصورة إلى المنزلة، وهو الطريق الذى استعصى - للأسف - على كل الحكومات والمجالس المحلية والمحافظين ونواب الشعب الذيت تعاقبوا علينا طوال أكثر الخمسين عاما - على ما أذكر - فقد كانت مشكلة هذا الطريق بطول 55 كيلومترا فقط، والذى يربط بين أكثر من 90 قرية، يسكنها ثلث قاطنى محافظة الدقهلية تقريبا، هو محط أنظار نواب البرلمان طوال الخمسة عقود الماضية، بل إنه كان يحتل الصدارة دوما فى برامجهم الانتخابية، منذ أن كان ثعبانا صغيرا يتلوى بين البحر والترعة، حتى صار وحشا كاسر يلتهم ضحاياه ليل نهار غرقا تحت الماء، أو نتاج حوادث التصادم الأسبوعية المتكررة فى غيبة لضمائر كثير من المسئولين.
تاريخ طويل من الحزن والألم، ظل يتمدد فى عمق حياتنا - فى غيبة من وعينا - بفعل ضيق الطريق الذى لايزيد عرضه عن 8 مترات، يأتى فى صورة حارتين ضيقتين جدا تتداخل فيها فوضى السيارات التى لايفصل بينها "سنتيمتر واحد"، ولا يفصل سيارات الأجرة و"عفاريت الأسلفت" من سائقى الميكروباص والشاحنات الثقيلة والمتوسطة والصغيرة والتوكتوك عن "البحر الصغير" من ناحية، وترعة للرى من ناحية أخرى سوى 40 سم فقط، ويوما تلو الآخر يضيق الطريق، ومعه تتسع حجم المأساة صانعة عبر فصولها العبثية نوعا من التراجيديا الانسانية فى زحفها الموجع على جناح موت هيستيرى لا يفرق بين صغير أو كبير، أو حتى عروس وعريسها فى ليلة الزفاف كما حدث الخميس الماضى .
أظن أنه بعد هذا المأساة الإنسانية لم يعد بمقدور أى مسئول فى هذا البلد مهما كانت بلادة إحساسه أن يمر عليه مشهد والد العريس مرورا عابرا، وهو يقف على بعد أمتار من مكان غرق السيارة، يصرخ ويئن عاليا : "إطلع يا ابنى.. عاوز أشوفك فى الكوشة.. منتظر اليوم دا من سنين"، هى إذن محاولات يائسة، مغلفة بأمل ربما يتجدد له من خلال كلمات أحدهم هامسا فى أذنه قائلا : "هيطلعوا ياحاج متقلقش"، لقد تعلق الأب المكلوم وذوى الضحايا الآخرين بخيط رفيع من الأمل فى النجاة جراء صيحات الأهالى المتواجدين فى محاولة إنقاذهم عريسه المرتجى، لكن أستار الليل الحزين سبقت كل رجاء، فقد سطرت النهاية وهى تزل على المشهد الأخير معلنة النهاية يهمس أحدهم فى أذن الأب المسكين قائلا "الحمد لله خرجوا"، لكنها كانت الرؤية الأخيرة لأهالى المفقودين، الذين بدأوا منذ اللحظة رحلة الذهاب نحو مثواهم الأخير، ليتحول انتظار الآباء من قاعة الأفراح إلى أبواب المشرحة؛ من أجل الحصول على جثث فلذات أكابدهم الأربعة، وبعدها تتحول مكبرات الصوت التى تعلو منازل العروسين، إلى تلاوة آيات من الذكر الحكيم مصحوبة بعبارات تحض على الصبر على البلاء الذى حل بقريتنا فى تلك اللية الحزينة، تنهمر دموع الفرح فى قلب مشهد جنائزى مخيف، ويتحول الوافدون من أجل التهنئة إلى مصافحة تقديم العزاء، على أثر تحول حفل الزفاف إلى مأتم توارت فيه الزينة خلف ستائر الحزن النبيل .
نعم إنه الحزن النبيل فى تجلياته المأساوية فى قريتى الطيبة بأهلها من الفلاحين "ملح هذه الأرض" فقد حاول البعض فيها استغلال انتشار سحابات كثيفة من الحزن الذى عكر الأجواء فى التحريض على قطع الطريق، وإعلان العصيان المدنى فى غياب أى نوع من التحرك من جانب المحافظ والمجلس المحلي، ونواب الشعب" آمال طرابية – محمود نبيه – معتز السعيد"، فها هو والد العريس الذى لا يصدق ما حل بنجله من فجيعة فى ليلة عرسه، يقف فى صلابة على باب قاعة العزاء مطالبا فقط بإصلاح طريق الموت، الذى تسبب فى وفاة ابنه يوم زفافه، راضيا بقضاء الله وقدره قائلا: "ابنى مات خلاص عاوزين إيه تانى عشان تصلحوا الطريق يا مسؤلين؟! ".
ومن هنا وبالأصالة عن كل أهالى "الدراكسة" لن أطالب مجلس الوزراء ولا المحافظ ولا المجلس المحلى ولا حتى النواب الذى يرفلون فى رغد عيش مجلسهم الموقر، بل أطالب وكلى أمل قواتنا المسلحة المصرية، باعتبارها العمود الفقرى فى الحياة المصرية - كما هو راسخ فى وجدانى وعقديدتى وكتبته ووثقته من قبل - بضرورة التدخل الفورى بقرار عاجل وناجز من جانب سيادة الفريق أول صدقى صبحى وزير الدفاع والإنتاج الحربى، لتكليف الهيئة الهندسية بتولى مسئولية إصلاح ما أفسدته السنوات العجاف فى طريق الموت الذى يربط بين المنصورة والمنزلة عبر 8 مراكز و90 قرية منها "سلامون القماش - محلة دمنة – دكرنس – الدراكسة – منية النصر – وصولا إلى المطرية"، فقد وعدت الحكومة أكثر من مرة بإصلاحه دون جدوى، وكان آخرها حين زار المهندس إبراهيم محلب الدراكسة، حين كان رئيسا للوزراء، خاصة انه لا يحتاج أكثر من بضعة عشرات من الملايين التى يمكن أن تحقن دماء ثلث أهالى الدقهلية، ممن قدموا أكبر عدد قدموا أكبر عدد من شهداء الواجب فى حروب 67 و الاستنزاف وحرب أكتوبر العظيم، فضلا عن مئات الشهداء من الجيش والشرطة فى حروب الإرهاب الحالية فى سيناء.
أعلم حجم الأعباء الملقاة على عاتق قواتنا المسلحة، خاصة فى هذه اللحظة الفاصلة من عمر الوطن والمواطن، لكن صرخة قرية مصرية تدرك جيدا أن القوات المسلحة تظل بعطاء أبنائها وتضحياتهم جيلا بعد جيل هى الدرع الواقى لمصر والحصن المنيع لأمنها واستقرارها وسلامة شعبها، لذا نلجأ إليها فى وقت الشدة والأزمات التى تستعصى على الحكومة، جراء ما نلمسه من جانب رجالها الذين يقدمون كل يوم نموذجا فريدا للعمل الوطنى والعطاء بكل الصدق والشرف، إنطلاقا من عقيدة راسخة بضرورة الحفاظ على بقاء الدولة المصرية ودعم قدرتها فى التصدى لكافة التحديات، فضلا عن إيمان عميق بأن القوات المسلحة المصرية فى مسيرتها التنموية تعتمد بالأساس على عدة محاور أهمها ضرورة القيام بدور مجتمعى وتنموى شامل، بهدف التيسير على المواطن المصرى، وتنفيذ العديد من الإنجازات والمشروعات الطموحة لدعم التنمية الشاملة، إلى جانب توفير متطلبات الحياة الكريمة لأبناء الشعب المصرى، والمعاونة فى شتى مجالات التنمية .