ليس من المعقول أن يقال على المذاهب العلمية الحديثة إنها مسرفة فى الاعتماد على "المادية"،ـ فإذا صدق هذا على علم القرن التاسع عشر، وعلم القرن العشرين، فهو من غير شك لا يصدق على علم القرن الواحد وعشرين. ولا أرى أنه مناسب أن يوصف النظام التفكيرى الذى نتناوله بالمادية.
والذين يتتبعون هذا المقال إلى آخره ، سيرون اعترافاً صريحاً بوجود ما هو فوق الإنسان، إلا أن هذا الاعتراف لا يخالف القول بأن حياة الإنسان كلها مادية كانت أو معنوية، ليست إلا نتيجة طبيعية لوظائف أعضائه. ومنها طبعاً "المخ" الذى يتعلق بوظيفة كل ما هو إنسانى خالص.
ولكن السؤال الأهم كيف يؤدى المخ هذه الوظيفة ؟ هذا ما لم يكن يتصور إنسان قبل الكشف عن القوة الالكترونية التى تتغير وتختزن التغيرات دون تغير كيميائى أو حتى فيزيائي. والواقع أن كل مؤثر خارجى يخلق بواسطة حواسنا مسالك الكترونية فى المخ ، وهذه المسالك نفسها تصبح طريقاً معبراً للمؤثرات التى تحدث بعدها فتسير فيها. ولا أريد أن يمل القارئ هنا تكرارى أن القوة الالكترونية هى الحل النهائى لوظيفة المخ ولكننى أعرض ما يشبهها دليلاً على إمكان قيام المخ بوظائف الانسان كلها حتى المعنويات منها .
وإذا كان هذا التفسير صالحا لشرح الذاكرة وما يتبعها من قوى تتعلق بها مثل العادات والخبرة والعلم بالماضى ، فقد لا يكون ذلك كافياً لشرح عواطفنا التى تتمثل فى الحب والكره وإعجابنا بالجمال أو رفضنا للقبح . فقد يحدث من حولنا أمر تدركه حواسنا سمعاً أو بصراً أو لمساً إلى المخ ، فإذا كان هذا الأمر منظماً ، وصادف نظامه توافقاً فى نظام الأعضاء الخاصة به كالعين أو الأذن الداخلية فإن ذلك يحدث فيها حركة منظمة ، وتنتقل هذه الحركة إلى المخ فتجد فيه مسالك خلقية أو مكتسبة. وإذا صدف أن توافق نظام هذه المؤثرات مع نظام هذه المسالك التى فى المخ تم تسجيل هذا المؤثر على نحو منظم دون أن يصطدم بعقبات أو مسالك مغلقة تضطرب عندها هذه الموجات الحسية ، عند ذلك يحدث لنا السرور مثلاً.
ثم تنشأ عندنا الرغبة فى تكرار هذا الإحساس وتنشأ عاطفة الحب لهذا الذى كان السبب فى هذا الاهتزاز المنظم الذى يسير فى مسالك مهيأة له.
ويمكن أن نعتمد على هذا التفسير المحتمل للأصل المادى لحب الانسان بكل أنواعه ، وعشق الجمال ، والميل إلى الموسيقى. حيث يرى من هذا أن النظام هو أساس معرفتنا للجمال ، وليس أدل على هذا أن النظام هو أصل سرورنا بالجمال من الموسيقى ، فلو أن النغم الموسيقى لم يكن منظماً ولو أنه وقع على أذن داخلية لم تنتظم أوتارها انتظاماً يوافق النغم ، لما كان لنا من السرور شىء، مثله مثل دقات القلب عند ملاقاة الحبيب ، وإلا ما كان للقلب أن ينبض ليعبر عن إحساس السرور لدى صاحبه ، وهنا تنشأ عاطفة الحب الانساني.
· أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة .