استعرضنا فى مقال أمس الأول، كيف جنح العالم إلى ترسيخ أدوات سلطة الفرد فى العديد من البلدان الاستبدادية، أو الديمقراطية، على حد سواء، ولاحظنا ما تشير إليه موافقة الشعب التركى على التعديلات الدستورية التى اقترحها نظام رجب طيب أردوغان، تدعيمًا لسلطته وتخليدًا له على كرسى الحكم، واستعرضنا أيضًا كيف أن العالم الآن يجنح بقوة فى طريق ترسيخ حكم اليمينيين على البلاد، خاصة فى أوروبا التى تتلقى ديمقراطياتها الراسخة الضربة تلو الأخرى وسط صمت وذهول من المفكرين والمحللين والسياسيين الكلاسيكيين، وهو ما طرح العديد من الأسئلة الصعبة، حول مصير العالم فى هذا التجاذب اليمينى أسبابه وإلى ما سيقود إليه.
يؤسفنى هنا أن أقول إن قاطرة الاستبداد التى تجتاح العالم الآن تقودها تيارات محسوبة على حضارتنا وثقافتنا، فالشبح الذى أوقظ روح الاستبداد فى أوروبا وأمريكا هو شبح «إسلامى» للأسف، يحمل بين تجويف جمجمته أحاديث نبوية وآيات قرآنية، ويحمل على خصره أحزمة ناسفة، وعلى يده «كلاشينكوف» وفى راحته قنبلة أو خنجر، شبح لا يتورع عن القتل والذبح والحرق، شبح يتفاخر بقتل المدنيين والعسكريين على حد سواء، شبح يرى الحضارة رجس من عمل الشيطان، والتمدن «جاهلية» ولهذا أوقظ بالفعل الروح الجاهلية عند الجميع، فسعت دولة مثل تركيا إلى تعميق ديكتاتوريتها، وسعت دول أخرى فى العالم إلى التنازل السريع عن ميراثها من احترام حقوق الإنسان فى الداخل ومنجزها السياسى الذى كانت تفتخر به منذ قليل، والذى يحجم من سلطة الفرد لصالح سلطة الشعب والمجتمع المدنى والرأى العام.
طبيعى فى أجواء كهذه أن نرى تراجعًا كبيرًا لدور الإعلام التنموى أو الإعلام التنويرى لصالح الإعلام التعبوى، وطبيعى أن تجد الآن فى أوروبا من ينادى بإقصاء المسلمين عن أى شىء وكل شىء، وطبيعى أن نرى إعلامًا غريبًا يشبه إعلام العقود الوسطى من القرن الماضى، حيث تحفيز الشعوبية وإيقاظ الروح القومية وإذكاء النزعات العنصرية، ورأينا وفقًا لهذا التصور نشاطًا ملحوظًا لـ«كبار السن» الذين كانوا قريبين من هذه الأجواء فى مهدهم، كما رأينا فى أوروبا حالة أشبه بتلك الحالة التى انتابت شباب دول الربيع العربى من الهجوم على الأجيال التى تكبرهم سنًا، كما حدث أثناء التصويت على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى، فهل دق العالم ناقوس الرجعة إلى عصور كان قد هجرها إلى الأبد، أم أن الأمر لا يتعدى فكرة «رجوع اضطرارى»؟