كان الدكتور محمود الربيعى ممن يحبون مناقشة تلاميذهم فى أثناء محاضرته، ويتلقى الأسئلة منهم فى مستهل المحاضرة، ولم تقتصر الأسئلة على مجال النقد الأدبى الذى يقوم بتدريسه لنا. وكما أشرت فى مقالى أمس، فإن تدريسه لنا منهج القصة القصيرة بروادها العالميين ونحن فى الصف الثالث بكلية دار العلوم عام 1983، تزامن مع محاولات الجماعات المتطرفة استعادة قوتها داخل أسوار الجامعة، بعد أن تأثرت نسبيًا باغتيال الرئيس السادات يوم 6 أكتوبر 1981، وكان هو ينتقد هذه المحاولات بشراسة، ولا يكف وهو يشرح نصًا أدبيًا عن ذكر إسقاطات توسع مداركنا، وتفتح لنا الطريق نحو التنوير فى مواجهة مخططات إغلاقه.
بالطبع لم يكن هذا الأسلوب المثمر يعجب أصحاب الفكر الظلامى من الطلاب الذين بيننا، وكانوا دائمى الانتقاد له أمامنا، وفى إحدى المحاضرات جاءت المواجهة التى مازلت أذكرها بتفاصيلها، رغم أنها حدثت عام 1983، لأنها أعطتنى مزيدًا من مفاتيح التفكير العلمى، ورغم أننى كتبتها من قبل، إلا أننى أعيد روايتها..
بدأ «الربيعى» محاضرته: «أمامى ورقة الآن مكتوب فيها: تقدم لنا دروسك عن الكفرة الملحدين أبناء حضارة الغرب، تورجنيف وتشيكوف وموباسان وغيرهم، هل أنت تخدم دينك بهؤلاء، ألا تخشى من يوم حسابك أمام الله؟»، وأضاف «الربيعى»: «اللى وجه الكلام ده كاتب: طالب يخشى ذكر اسمه خوفًا من نتيجة امتحانات آخر العام»، وفور انتهاء أستاذنا من قراءة الورقة، قال: «لو يمتلك هذا الطالب الشجاعة فليقف الآن لأناقشه»، وساد الصمت التام بيننا، وكان عددنا بالمئات، ومرت لحظات لم يقف أحد فيها، فبدأ «الربيعى» حديثه:
«هذا الطالب غير الشجاع هو طالب غير واثق فى نفسه، ولن أرد على قوله بأنه يخشى من النتيجة آخر العام، لأن هذا موضوع لا يستحق الرد، فالطالب تتحدد نتيجته طبقًا لإجابته واجتهاده العلمى، وليس لشىء آخر، أما الموضوع الذى لا أعجبه فيه، فأنا أسأله: إذا كنت تعتقد أن الأسماء التى أقوم بتدريسها لك هم ملاحدة وكفرة من حضارة الغرب، فما رأيك فى الذى اخترع الكهرباء وأنت تستخدمها؟ وما رأيك فى الذى اخترع التليفون وأنت تستخدمه؟..
ما رأيك فى الذى اخترع الراديو وأنت تستمع إليه؟ ما رأيك فى الذى اخترع دواء البنسلين الذى يعالج المرضى فى كل العالم، ولو مرضت وذهبت إلى الطبيب ورأى أن علاجك فيه، سيكتبه لك؟ ما رأيك فى الذى اخترع أمصال شلل الأطفال، وغيرها من الأمصال الأخرى؟».
ذكر الدكتور الربيعى أمثلة أخرى، وكان يطرحها كطلقات سريعة وبأسلوبه الآخاذ، ثم اختتمها بتعليقه: «أقول للطالب الذى يخشى من ذكر اسمه: لماذا تستخدم هذه الاختراعات التى تعيش الإنسانية كلها عليها الآن، وهى من إنتاج حضارة الغرب، وبعض العلماء الذين اخترعوها كفرة وملاحدة؟».
لا أعرف حدود تأثير هذا الأسلوب على الزميل الذى طرح هذا السؤال، لكننى أثق فى أنه ترك أثره على معظم الذين استمعوا إلى الدكتور «الربيعى»، وحين قرأت حواره مع الصديق حمدى عبدالرحيم المنشور بـ«صوت الأمة» يوم 23 إبريل الجارى، كان هو نفس الأستاذ الذى علمنى قبل 34 عامًا، والذى توقع سقوط أى دعوة ضد التقدم والاستنارة، ففى حواره قال: «المصريون متدينون، بمعنى أن الدين بمعناه الصحيح هو جزء لا يتجزأ من تكوين المصرى الثقافى والاجتماعى بل والسياسى، هذا المصرى الذى يحترم الدين هو نفسه الذين ينفر، بل ويتصدى للدولة الدينية».
تحية لأستاذنا العظيم.