تثار من فترة إلى أخرى إشكالية العلاقة بين المشرق العربى والمغرب العربى، فمن قائل إن المشرق ينتج الأفكار والحركات السياسية، بينما المغرب يقدم الأفكار الفلسفية، وأن أهل المغرب أكثر انفتاحاً على الغرب، وتحديداً الثقافة الفرنسية، بينما أهل المشرق متحيزون للثقافة الأنجلوسكسونية، خاصة الأمريكية، ويرى البعض أن أهل المغرب أكثر ميلاً للتفكير والتنظير من أهل المشرق الأكثر ميلاً إلى العاطفة والانفعال فى التفكير والسلوك.
لكن أغلبية المؤمنين بالعروبة والوحدة العربية يرفضون هذه التقسيمات والأحكام، ويؤكدون أن الاختلافات بين أهل المشرق والمغرب ضئيلة جداً، لكنها تثرى الثقافة العربية الإسلامية، فضلاً عن أن تطور تكنولوجيا الاتصال تجسر الفجوات بين المشرق والمغرب، وتضاعف من مظاهر التفاعل والتواصل بين جناحى الأمة العربية.
لكن ما المقصود بالتواصل؟ قد يظن البعض أن التواصل هو المحصلة النهائية لشبكة الاتصالات والتفاعلات، الرسمية والشعبية، على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وإذا سلمنا بهذا المعنى للتواصل، فإن السؤال الذى يطرح نفسه: لمصلحة من يتم هذا التواصل؟ وما الأهداف أو الغايات الكبرى التى تحدد مسار هذا التواصل؟ ثم ما الوزن النسبى للجهات الرسمية والشعبية فى فعاليات هذا التواصل؟
أتصور أننا بحاجة لتغليب الأهداف والغايات الثقافية والاقتصادية فى التواصل بين المشرق والمغرب، وإتاحة مساحة أوسع للفعاليات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدنى، فى دعم وتطور التواصل المشرقى- المغربى، لأن درس التاريخ منذ الاستقلال الوطنى يعلمنا أن الرهان على الدولة القطرية والمؤسسات الحكومية لم يحقق الشىء الكثير، وقد أفسدت السياسة والسياسيون الكثير من المظاهر والآليات التاريخية، التى كانت تكفل التواصل الثقافى والاجتماعى بين المشرق والمغرب.
على أى حال، فإن السؤال الذى يطرح نفسه هو: كيف نقيس أو نقدر فاعلية التواصل بين المشرق والمغرب؟ أعتقد أن المعيار الكمى فى قياس الزيادة أو التراجع فى هذا التواصل قد لا يكون مفيداً أو ذا دلالة، وعلى سبيل المثال قد تبدو زيادة رحلات السفر بين المشرق والمغرب أو زيادة التبادل التجارى بين المشرق والمغرب أموراً إيجابية لا تنطوى على سلبيات، لكن لا توجد أشياء فى العالم بلا سلبيات بسيطة، وأشير هنا إلى أن تدفق العمالة المصرية على دول الخليج، وزيادة أعداد السائحين من دول الخليج إلى مصر لم يولد نتائج إيجابية على طول الخط، وإنما تضمن أيضا قدراً مهماً من السلبيات.
قد يبدو البديل عن المعيار الكمى هو استخدام معيار كيفى ينظر إلى الصور والرموز والمعانى والقيم المرتبطة بالتواصل بين المشرق والمغرب، الناتجة عن هذا التواصل، والمؤيدة أو المعارضة له، والإشكالية أيضاً أن هذا المعيار بالغ التعقيد، ويصعب قياسه بسهولة، فمن الصعب التعرف على ملامح صورة السورى أو العراقى الآن لدى المواطن الجزائرى، وهل تتغلب رابطة الأخوة فى العروبة أم الأخوة الإسلامية فى تحديد ملامح هذه الصورة، أم أن الدائرتين العروبية والإسلامية تتكاملان ولا تتخاصمان، ثم ما هى صورة الليبى لدى المشرقى أيام حكم القذافى، وما هى صورته بعد الإطاحة بالقذافى، وأعتقد أن صورة الليبى تغيرت الآن بعد أن دخلت الثورة الليبية فى نفق الحرب الأهلية أو كادت.
على أى حال هذا مجرد نموذج لصعوبة القياس أو التحليل الكيفى، وبطبيعة الحال هناك ثمة صعوبات شتى، فمع استخدام مفهوم الصور النمطية أو القوالب الذهنية بشكل عام تثار مشاكل الإدراك المتحيز والمشوه، فضلاً عن الاختصار والتعميم. وينقلنا ذلك مباشرة إلى معضلة من هو المشرقى من وجهة نظر المواطن المغربى، هل هو المصرى أم اللبنانى أم الفلسطينى أم هو الخليجى، فى المقابل من هو المغربى من وجهة نظر المشرقى، هل هو الليبى أم الجزائرى أم الموريتانى؟
أعتقد أن المشرق أو المغرب مفهومان فى حاجة إلى مراجعة، فى ظل تطور الدولة القطرية واختلاف مستويات التطور السياسى والاجتماعى والاقتصادى، داخل ما كان يعرف بدول المغرب أو دول المشرق، وقناعتى بأن لكل قطر عربى سماته الاجتماعية والثقافية الخاصة، حتى فى ظل انتمائه لإقليم أكبر كالمغرب العربى أو المشرق العربى، لكن السمات القطرية تختلف فى كثير من الزوايا عما درج الناس على استخدامه لوصف سمات الشخصية العربية عامة.
وقد تتصادم هذه المقولات مع الشائع والمستقر فى الخطاب القومى العربى التقليدى، الذى حرص على التعميم والتجريد والسكوت عن السمات والخصوصيات الثقافية والاجتماعية فى الأقطار العربية، بل وبعض الصور المشوهة أو السلبية التى تحملها بعض الشعوب العربية عن بعضها، والتى تساعد وسائل الإعلام فى تعميقها وتكريسها أحياناً. إن الفكر والخطاب القومى العربى عليه الاعتراف بهذه الخصوصيات القطرية، وما صاحبها من آثار وصور سلبية، ويتعامل معها بجدية بعيداً عن منطق المؤامرة، وذلك فى إطار السعى لتجديد مقولاته والارتباط الفاعل والموضوعى بالواقع.
نبقى مع إشكالية قياس التواصل والتفاعل بين الشعوب العربية، وأتصور أن المدخل الملائم هو إجراء بحوث ودراسات ميدانية مقارنة وعبر ثقافية بين دول المشرق والمغرب، تعتمد على معيار مركب يعتمد على مؤشرات كمية وكيفية فى قياس وتقدير حجم واتجاه التواصل وآثاره على حفظ كيان الأمة العربية، ودعم وحدتها الثقافية والاجتماعية، وفرص إيجاد وتطوير آليات للتعاون الاقتصادى والسياسى بين الدول العربية.
والبحوث والدراسات المقترحة ليست من فصيلة التيار الجارف والسائد من بحوث بعض المراكز الخاصة أو الهيئات والمؤسسات التابعة للجامعة العربية ومنظماتها، فقد عانينا من كثرة وسطحية هذه البحوث، التى اتسمت بطابع نظرى شكلى، يعتمد أساسا على إحصاءات رسمية مشكوك فى صحتها، ومعطيات مكتبية، وأفكار وأراء أيديولوجية تقوم على التعميم، والنظر إلى الواقع ليس كما هو، بل من زاوية اللزوميات والينبغيات.
لقد أنتجت مئات الأبحاث والدراسات النظرية، ونظمت مئات الندوات والمؤتمرات الكلامية فى دول المشرق والمغرب، واعتبرت تلك الأنشطة بحق من قبيل المظاهر الإيجابية للتواصل الثقافى الإيجابى بين المشرق والمغرب، لكن مع ذلك نظل فى حاجة إلى بحوث ودراسات ميدانية تتجاوز أطر الدولة ومؤسساتها، بل أطر المثقفين وكلامهم النظرى المجرد إلى الواقع الحى، نحتاج أن نتعرف على رأى رجل الشارع فى دول المشرق والمغرب فى قضايا حياتية ملموسة تتعلق بالتعاون الاقتصادى والثقافى العربى، وبالصور التى يحملها عن إخوانه العرب، وعن مستقبل العرب، نحتاج أيضا أن نتعرف على واقع مؤسسات المجتمع المدنى فى المشرق والمغرب، وفى سبل وآليات دعم شبكات التعاون والتواصل بينها.