لأى باحث، كما لأى إنسان، الحق فى أن يحب ويكره أى شخصية تاريخية، لكن تأتى الجريمة من صنف الباحثين الذين يقدمون مادتهم العلمية طبقًا لهواهم الشخصى، حيث يقومون بعملية فرز وتجنيب فى الوقائع والآراء طبقًا لهذا الهوى.
ويعد مجال التاريخ هو المجال الخصب الذى ترتكب فيه تلك الجريمة المكتملة الأركان، فاللعب بوقائعه بتجاهل أحداثه، أو بتأويلها، أو بانتزاعها من سياقها التاريخى، أو تحميلها بمعانٍ بعيدة كل البعد عن الحقيقة، هو أكبر خدمة تقدم إلى كل الذين يريدون الإبقاء على تخلفنا، ويريدون تفريغ أدمغتنا من كل القيم الوطنية البناءة، وهى أكبر خدمة يمكن تقديمها لأعدائنا، الذين يثقون فى أن تزييف التاريخ يؤدى إلى تخريب النفس، وتلك مسألة أخطر فى نتائجها من الهزيمة فى ميدان الحروب بالسلاح.
أدوات تنفيذ هذه النوعية من الجرائم ليست صعبة، حيث يقذف باحث أو كاتب بعبارة أو رأى شاذ، مزود بآلة دفاع تحتوى على شعارات بسيطة، كأن يقال مثلا: «اعرف تاريخك الحقيقى»، و«كل ما تعلمته مزيف»، وشعارات أخرى مماثلة يتم تمريرها بسهولة، وبالرغم من أن ظاهرها يبدو على حق فى بعضه، فإن باطنها هو الدمار بعينه، أى أنها تطبيق عملى وحقيقى لـ«دس السم فى العسل».
يتم الضغط بهذه الأدوات لتهيئة المتلقى لاستقبال ما سيتم طرحه بدهشة ونفس مفتوحة خاصة، واللافت أن ذلك يتم أكثر ما يتم مع المناطق المضيئة فى تاريخنا، تلك التى تحتوى على معانٍ حقيقية فى معاركنا الوطنية وأدت إلى الزهو بكرامتنا، والاقتناع بأننا نستطيع أن نقول «لا» فى وجه المتربصين بنا مادامت إرادتنا حرة.
وفى هذا يمكننا أن نعد الكثير من القضايا التى وقعت فى تاريخنا الحديث، ولنا فيها الحق كاملًا، واستقر الوعى الجمعى على ذلك، ثم يأتى من يدق على هذا الأمر إما بأسلوب الصدمة الكهربائية، وإما بالتدريج، حتى لو كان بطيئًا. وتعد قضية الصراع العربى الصهيونى، وما حدث فى تطوراتها منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، أبرز مثل على ذلك، فرغم أن أساس القضية هو «اقتلاع شعب من أرضه، وتوطين محتل غاصب على نفس هذه الأرض»، فإنه وتحت شعارات زائفة، وتزوير فاضح للتاريخ، يواصل باحثون وسياسيون عندنا مهمة الدفاع عما فعلته إسرائيل من جرائم بتبريرات منحطة، ولا تقف مهمة هؤلاء عند تبرئة إسرائيل من جرائمها، وإنما تمتد إلى ذكرهم تاريخنا وفقًا لهذه التبرئة.
فى هذا السياق، أضع كلام الدكتور يوسف زيدان ضد صلاح الدين الأيوبى: «صلاح الدين الأيوبى واحد من أحقر الشخصيات فى التاريخ الإنسانى»، وعلينا أن نفهم الكلام الذى قاله منذ شهور مضت: «لا وجود للمسجد الأقصى، والقدس حق لليهود».
وتفنيد هذا الكلام بالرد عليه طبقًا للوقائع التاريخية مسألة سهلة، لأن المراجع التاريخية موجودة، غير أن جريمة الرجل ككل جرائم الباحثين المغرضين تكمن فى أنه قام بعملية فرز وتجنيب لصالح ما يقول، وأخذ من تاريخ الرجل ما يحقق غرضه، ثم أطلق حكمه الإجمالى عليه.
ولأن إسرائيل مثلًا لديها هاجس تاريخى، هو هزيمة الصليبيين فى حطين على أيدى صلاح الدين، ثم طردهم فيما بعد على أيدى الظاهر بيبرس، وانتهاء هذا الاحتلال الاستيطانى بعد وجوده فى المنطقة لأكثر من مائتى عام، فإنها ستكون الأسعد بما قاله «زيدان»، لأنها بذلك تطمئن على أن «التيار» الذى يصف أحد الذين هزموا «الحالة الصليبية» التى ولدت من رحمها بـ«الحقير»، مازال يعيش بيننا.